عبدالحميد الديب.. شاعر الفكاهة والبؤس!
صفحة 1 من اصل 1
عبدالحميد الديب.. شاعر الفكاهة والبؤس!
عبدالحميد الديب (1898-1943م) الذي لقب حيًا وميتًا بشاعر البؤس، هو واحد من أشهر الشعراء الصعاليك في القرن العشرين، إذا أخذنا الصعلكة بمفهومها الحديث وهو: يعني التشرد وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي، وضنك العيش، والتصادم المستمر مع الحياة والأحياء.
أما المفهوم القديم للصعلكة الذي يعني قطع الطريق واغتيال ثروات الأغنياء لتوزيعها على المحتاجين كما كان يفعل الشعراء الصعاليك الأقدمون مثل عروة وتأبط شرًا وغيرهم فلم يعد لها وجود.
على أن صعلكة عبدالحميد الديب وتشــرده وحياته النكدة التي عاشـــها لا تعود إلى سبب واحد، بل إلى سببين، أولهما تلك النشأة الاجتماعية الخشنة التي جُوبه بها في طفولته، فقد كان أبوه فقيرًا يعول أسرة كبيرة وبالتالي فلم يظفر شاعرنا بما كان يراه في حياة أثرياء قريته (كمشيش بالمنوفية) وهذا سبب خارج عن إرادته وإرادة والده الذي كان يحرص عليه كما سيأتي.
أما السبب الثاني لصعلكته فهو متعلق به هو، فقد كان أبوه على الرغم من ضيق يده، حريصًا على تعليم ابنه فلما أتم صاحبنا حفظ القرآن وتجويده في سن مبكرة أرسله - على عادة أهل الريف في ذلك الزمان- إلى المعهد الديني بالإسكندرية حيث نال منه شهادته المتوسطة ثم أرسله إلى القاهرة بعد ذلك عام 1920م ليستأنف تعليمه العالي في الأزهر، لكن عبدالحميد انحرف عن الطريق السويّ الذي سلكه نظراؤه من الذين سارت بهم مواكب الحياة سيرتها التقليدية فأتموا تعليمهم والتحقوا بوظائف حكومية كفلت لهم حياة كريمة.
ويبدو أن لنفسية الديب المتمردة، وشخصيته الثائرة، أثرًا في تغيير مسار حياته، فقد قضى شطرًا من عمره في الأزهر ثم يمم شطر دار العلوم التي كانت آنذاك قبلة الأدباء ومحط رحال الشعراء والمبدعين، غير أنه أكبّ على كتب الأدب والتراث في دار الكتب يلتهمها التهامًا، ثم عندما أهمل دراسته التقى ذات يوم بالمطرب سيد درويش الذي أعجب بعبقرية صاحبنا فأخذه ليعيش معه في قصره الفخم ويشاطره حياته المترفة إلى أقصى حدود الترف.
عاش صاحبنا مع سيد درويش لاهيًا عن كل شيء إلا الفن والحياة الصاخبة، فضيّع دراسته، ومستقبله، ولم يطل به العهد بالنعيم فقد مات سيد درويش فجأة وهو في عنفوان الشباب عام 1923م وطُرد صاحبنا من القصر الفخم إلى الشارع فاستأجر لنفسه غرفة حقيرة في حي الحسين الشعبي بالقاهرة وبدأت حياته مع التسكع والكدية والصعلكة على نحو استمر حتى وفاته عام 1943م.
وقد يبدو التماس جوانب للفكاهة في حياة كئيبة كهذه الحياة ضربًا من المستحيل، لكن ذلك في الحقيقة ليس مستحيلاً إذا استعان الباحث في شعر الديب بشيء من الصبر والأناة، فمثل هذا الشاعر البائس المتمرد لا تخلو روحه من الدعابة والسخرية، بل لعل السخرية من لوازم التمرد والتصعلك وهذا ما نلمسه في شعره حين يصور لنا حياته البائسة في غرفته تلك الحقيرة التي عاش فيها والتي كانت تشبه جحرًا بل كان يسميها (جحر الديب) وفيها يقول:
أفي غرفة يا رب أم أنا في لحد؟
ألا شدّ ما ألقى من الزمن الوغد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تساكنني فيها الأفاعي جريئة
وفي جوها الأمراض تفتك أو تعدي
ثم يصف أثاث هذه الغرفة وصفًا مضحكًا، فهذا الأثاث ليس في حقـيقته إلا شاعرنا نفسه!!
فهو لا يملك إلا معطفًا يفترشه صيفًا ويتغطى به شتاءً، ويتخذ لنفسه وسائد من أوراق الصحف يغطي بها حجرًا صلدًا حتى يلين قليلاً ليصلح وسادة.. يقول الديب:
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي
فراش لنومي أو وقاء من البرد
وأما وساداتي بها فجرائد
تُجدَّد إذ تبلى على حجر صلد
تعلمت فيها صبر أيوب في الضنى
وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
وعلى الرغم من هذه الحالة التي يقدم لنا فيها الشاعر صورة غرفته فإنه يحكي لنا عن تلك المعارك الضارية التي تشتعل أول كل شهر بينه وبين صاحب البيت بسبب الأجرة التي كانت ثمانين قرشًا هي بالنسبة لشاعرنا نكبة النكبات وأزمة الأزمات يقول الديب:
ثمانون قرشًا أهلكتني كأنها
ثمانون ذنبًا في سجل عذابي
طويت لها الدنيا سؤالاً وكُدية
فما ظفرت نفسي برد جواب
لُعنتَ كِراءَ البيت كم ذا أهنتني
وأذللت كبري بين كل رحاب
ففي كل شهر لي عواء بموقف
يباعد عني أسرتي وصحابي
وطول ليالي الشهر يهتاج مضجعي
مخافة رب البيت يغلق بابي
يطالبني في غلظة فأجيبه
إجابة من يرجو يدًا ويحابي
ألا سكن ملكي ولو بجهنم
وأكفي من الأيام شر حسابي
ويصور لنا عبدالحميد الديب كيف كان صاحب البيت يهينه إذا تأخر في دفع كراء الغرفة، ويعيره بفقره وبأن غرفته خالية من أي أثاث يمكن الحجز عليه، إذا ما شكاه إلى الشرطة. فلا شيء يملكه الشاعر يمكن احتجازه رهنًا مقابل الإيجار الضائع، وهذه المعايرة تتكرر أول كل شهر وشاعرنا لا يقف ساكنًا ذليلاً، وإنما يرد الكيل لصاحب الدار فيعيره بأن بيته حقير لا فرق بينه وبين القبر. وإذا كان في جيبه مال تعمد أن يضع يده في جيبه فيضرب بعضه ببعض فما أن يسمع صاحب الدار رنين النقود حتى تنقلب حاله، ويخفف من غلوائه ويتودد إلى شاعرنا في لطف وحنو فيذكّره بحب اليهود للمال وتكالبهم عليه يقول الديب:
صحوت على قصف الرياح وصوته
وما أحدث الطرق الخليع من الجرس
يطالبني بالأجر في غيظ دائن
تصيده المحتال بالثمن البخس
وقال يداري ظلمه: أي ضامن
لسكني تعرت عن سرير وعن كرسي؟
أراك بها كل الأثاث ولا أرى
سوى قلم ثاو على الأرض أو طرس
فقلت له: هذي جدودي كما ترى
فما سكني في البيت بل أنا في رمس
وقلت معاذ الدين ما كنت مرة
غريمًا ولا أذللت يومي ولا أمسي
ويغوص الديب في النفس الإنسانية التي أعماها حب المال فسلبها الحس المرهف والإنسانية الشاعرة، فإذا هي أمام المال تنقلب من حال الذئب الضاري إلى حال الحمل الوديع:
وأخضع فقري كبره وثراءه
وأي غنى للمرء غير غنى النفس
إذا كانت السكنى بأجر مذلة
فما أرحب المجان في غرف الحبس
فإني أرى فيها الطعام، ولا أرى
غريمًا، يلاقيني بعارضة النحس
وإن لم أجد فيها الطعام ميسرًا
فإني رخي البال.. أطعم من حسي
فتسوق أقدار الحياة إلى غرفته تلك المتهالكة لصًا يسرقها، فلا يجد إلا لحافًا ممزقًا هو كل ما يملك شاعرنا من أسباب النعيم، فيبكي شاعرنا لحافه الوحيد فيقول ساخرًا: إنه لا يحزن على فقد اللحاف بقدر حزنه على هلهلة سمعته فاللحاف في حال لا تسر عدوًا ولا حبيبًا، فهو يخشى الفضيحة إذا قيل: هذا لحاف إنسان!! ويعتب صاحبنا على اللص الذي يعتبره أخًا في المحنة، وصديق شدة كان حريًا به - والحال كذلك - أن يرأف به ويترك له لحافه يقول الديب:
لحافي، وهو غير الهباء لحافي؟
بقية نسج دارس ونداف
أطاف به لص فقير كعيشتي
فيما بؤسها من هجرة ومطاف
ولم أخش من ذا الرزء إلا فضيحتي
بأني قد مُلِّكْتُ شر لحاف
فليتك يا لصي الجريء وجدتني
غنيًا وسعدي في الحياة موافي
ويا ليتني ما كنت صيدك إنما
سرقت لحافي جاهدًا وشغافي
ويا ليتني دون اللحاف ضحية
فإني صديق في الحياة موافي
ومن ألطف نماذج الفكاهة في شعر عبدالحميد الديب، تلك المقطوعات التي هجا فيها بعض أصدقائه مستلهمًا قول جرير: (إذا هجوتم فأضحكوا) على أنه إذا هجا لم يكن في جميع الأحوال مضحكاً بل كان هجاؤه يصل أحيانًا إلى حد من الغلظة كبير، فقد حدث أن زار أديبًا كان وزيرًا معروفًا في الأربعينيات، وكان مشهورًا بعطفه على الأدباء والشعراء، فلم يتمكن من مقابلته بسبب صاحب له غليظ القلب ساءه أن يدخل رجل زري الهيئة مثل الديب على سيده الوزير فاشتد ذلك على الديب فقال يهجو الوزير وخادمه في شعر تظهر فيه خفة الظل:
قصدت إلى بابك الموصد
فطوردتُ بالخادم الأسود
غلام يمثل حظي لديك
وقلبك في البيت والمعبد
كأني حين طلبت الندى
إليك طلبت يد المعتدي
لقد عشت يا رب حتى رأيـ
ــت من الناس أقسى من الجامد
فخذني إليك وأنت الكريــ
ــم فقد ضقت بالزمن الأنكد
ولست أرى البؤس عارًا إذا
رأيت إبائي به مُسعدي
إن الديب قد عاش بائسًا، ومات بائسًا، ولم يرحم أصدقاؤه هذه البؤس بل كانوا يتخذونه مادة للسخرية، ووسيلة للاستهزاء، وكان شاعرنا يبادلهم احتقارًا باحتقار ويرد على بذاءاتهم ببذاءات أشد لا نستطيع ذكر نماذج لها.
رحمه الله وأبدله حياة أحسن من حياته في الدنيا
أما المفهوم القديم للصعلكة الذي يعني قطع الطريق واغتيال ثروات الأغنياء لتوزيعها على المحتاجين كما كان يفعل الشعراء الصعاليك الأقدمون مثل عروة وتأبط شرًا وغيرهم فلم يعد لها وجود.
على أن صعلكة عبدالحميد الديب وتشــرده وحياته النكدة التي عاشـــها لا تعود إلى سبب واحد، بل إلى سببين، أولهما تلك النشأة الاجتماعية الخشنة التي جُوبه بها في طفولته، فقد كان أبوه فقيرًا يعول أسرة كبيرة وبالتالي فلم يظفر شاعرنا بما كان يراه في حياة أثرياء قريته (كمشيش بالمنوفية) وهذا سبب خارج عن إرادته وإرادة والده الذي كان يحرص عليه كما سيأتي.
أما السبب الثاني لصعلكته فهو متعلق به هو، فقد كان أبوه على الرغم من ضيق يده، حريصًا على تعليم ابنه فلما أتم صاحبنا حفظ القرآن وتجويده في سن مبكرة أرسله - على عادة أهل الريف في ذلك الزمان- إلى المعهد الديني بالإسكندرية حيث نال منه شهادته المتوسطة ثم أرسله إلى القاهرة بعد ذلك عام 1920م ليستأنف تعليمه العالي في الأزهر، لكن عبدالحميد انحرف عن الطريق السويّ الذي سلكه نظراؤه من الذين سارت بهم مواكب الحياة سيرتها التقليدية فأتموا تعليمهم والتحقوا بوظائف حكومية كفلت لهم حياة كريمة.
ويبدو أن لنفسية الديب المتمردة، وشخصيته الثائرة، أثرًا في تغيير مسار حياته، فقد قضى شطرًا من عمره في الأزهر ثم يمم شطر دار العلوم التي كانت آنذاك قبلة الأدباء ومحط رحال الشعراء والمبدعين، غير أنه أكبّ على كتب الأدب والتراث في دار الكتب يلتهمها التهامًا، ثم عندما أهمل دراسته التقى ذات يوم بالمطرب سيد درويش الذي أعجب بعبقرية صاحبنا فأخذه ليعيش معه في قصره الفخم ويشاطره حياته المترفة إلى أقصى حدود الترف.
عاش صاحبنا مع سيد درويش لاهيًا عن كل شيء إلا الفن والحياة الصاخبة، فضيّع دراسته، ومستقبله، ولم يطل به العهد بالنعيم فقد مات سيد درويش فجأة وهو في عنفوان الشباب عام 1923م وطُرد صاحبنا من القصر الفخم إلى الشارع فاستأجر لنفسه غرفة حقيرة في حي الحسين الشعبي بالقاهرة وبدأت حياته مع التسكع والكدية والصعلكة على نحو استمر حتى وفاته عام 1943م.
وقد يبدو التماس جوانب للفكاهة في حياة كئيبة كهذه الحياة ضربًا من المستحيل، لكن ذلك في الحقيقة ليس مستحيلاً إذا استعان الباحث في شعر الديب بشيء من الصبر والأناة، فمثل هذا الشاعر البائس المتمرد لا تخلو روحه من الدعابة والسخرية، بل لعل السخرية من لوازم التمرد والتصعلك وهذا ما نلمسه في شعره حين يصور لنا حياته البائسة في غرفته تلك الحقيرة التي عاش فيها والتي كانت تشبه جحرًا بل كان يسميها (جحر الديب) وفيها يقول:
أفي غرفة يا رب أم أنا في لحد؟
ألا شدّ ما ألقى من الزمن الوغد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها
فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تساكنني فيها الأفاعي جريئة
وفي جوها الأمراض تفتك أو تعدي
ثم يصف أثاث هذه الغرفة وصفًا مضحكًا، فهذا الأثاث ليس في حقـيقته إلا شاعرنا نفسه!!
فهو لا يملك إلا معطفًا يفترشه صيفًا ويتغطى به شتاءً، ويتخذ لنفسه وسائد من أوراق الصحف يغطي بها حجرًا صلدًا حتى يلين قليلاً ليصلح وسادة.. يقول الديب:
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي
فراش لنومي أو وقاء من البرد
وأما وساداتي بها فجرائد
تُجدَّد إذ تبلى على حجر صلد
تعلمت فيها صبر أيوب في الضنى
وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
وعلى الرغم من هذه الحالة التي يقدم لنا فيها الشاعر صورة غرفته فإنه يحكي لنا عن تلك المعارك الضارية التي تشتعل أول كل شهر بينه وبين صاحب البيت بسبب الأجرة التي كانت ثمانين قرشًا هي بالنسبة لشاعرنا نكبة النكبات وأزمة الأزمات يقول الديب:
ثمانون قرشًا أهلكتني كأنها
ثمانون ذنبًا في سجل عذابي
طويت لها الدنيا سؤالاً وكُدية
فما ظفرت نفسي برد جواب
لُعنتَ كِراءَ البيت كم ذا أهنتني
وأذللت كبري بين كل رحاب
ففي كل شهر لي عواء بموقف
يباعد عني أسرتي وصحابي
وطول ليالي الشهر يهتاج مضجعي
مخافة رب البيت يغلق بابي
يطالبني في غلظة فأجيبه
إجابة من يرجو يدًا ويحابي
ألا سكن ملكي ولو بجهنم
وأكفي من الأيام شر حسابي
ويصور لنا عبدالحميد الديب كيف كان صاحب البيت يهينه إذا تأخر في دفع كراء الغرفة، ويعيره بفقره وبأن غرفته خالية من أي أثاث يمكن الحجز عليه، إذا ما شكاه إلى الشرطة. فلا شيء يملكه الشاعر يمكن احتجازه رهنًا مقابل الإيجار الضائع، وهذه المعايرة تتكرر أول كل شهر وشاعرنا لا يقف ساكنًا ذليلاً، وإنما يرد الكيل لصاحب الدار فيعيره بأن بيته حقير لا فرق بينه وبين القبر. وإذا كان في جيبه مال تعمد أن يضع يده في جيبه فيضرب بعضه ببعض فما أن يسمع صاحب الدار رنين النقود حتى تنقلب حاله، ويخفف من غلوائه ويتودد إلى شاعرنا في لطف وحنو فيذكّره بحب اليهود للمال وتكالبهم عليه يقول الديب:
صحوت على قصف الرياح وصوته
وما أحدث الطرق الخليع من الجرس
يطالبني بالأجر في غيظ دائن
تصيده المحتال بالثمن البخس
وقال يداري ظلمه: أي ضامن
لسكني تعرت عن سرير وعن كرسي؟
أراك بها كل الأثاث ولا أرى
سوى قلم ثاو على الأرض أو طرس
فقلت له: هذي جدودي كما ترى
فما سكني في البيت بل أنا في رمس
وقلت معاذ الدين ما كنت مرة
غريمًا ولا أذللت يومي ولا أمسي
ويغوص الديب في النفس الإنسانية التي أعماها حب المال فسلبها الحس المرهف والإنسانية الشاعرة، فإذا هي أمام المال تنقلب من حال الذئب الضاري إلى حال الحمل الوديع:
وأخضع فقري كبره وثراءه
وأي غنى للمرء غير غنى النفس
إذا كانت السكنى بأجر مذلة
فما أرحب المجان في غرف الحبس
فإني أرى فيها الطعام، ولا أرى
غريمًا، يلاقيني بعارضة النحس
وإن لم أجد فيها الطعام ميسرًا
فإني رخي البال.. أطعم من حسي
فتسوق أقدار الحياة إلى غرفته تلك المتهالكة لصًا يسرقها، فلا يجد إلا لحافًا ممزقًا هو كل ما يملك شاعرنا من أسباب النعيم، فيبكي شاعرنا لحافه الوحيد فيقول ساخرًا: إنه لا يحزن على فقد اللحاف بقدر حزنه على هلهلة سمعته فاللحاف في حال لا تسر عدوًا ولا حبيبًا، فهو يخشى الفضيحة إذا قيل: هذا لحاف إنسان!! ويعتب صاحبنا على اللص الذي يعتبره أخًا في المحنة، وصديق شدة كان حريًا به - والحال كذلك - أن يرأف به ويترك له لحافه يقول الديب:
لحافي، وهو غير الهباء لحافي؟
بقية نسج دارس ونداف
أطاف به لص فقير كعيشتي
فيما بؤسها من هجرة ومطاف
ولم أخش من ذا الرزء إلا فضيحتي
بأني قد مُلِّكْتُ شر لحاف
فليتك يا لصي الجريء وجدتني
غنيًا وسعدي في الحياة موافي
ويا ليتني ما كنت صيدك إنما
سرقت لحافي جاهدًا وشغافي
ويا ليتني دون اللحاف ضحية
فإني صديق في الحياة موافي
ومن ألطف نماذج الفكاهة في شعر عبدالحميد الديب، تلك المقطوعات التي هجا فيها بعض أصدقائه مستلهمًا قول جرير: (إذا هجوتم فأضحكوا) على أنه إذا هجا لم يكن في جميع الأحوال مضحكاً بل كان هجاؤه يصل أحيانًا إلى حد من الغلظة كبير، فقد حدث أن زار أديبًا كان وزيرًا معروفًا في الأربعينيات، وكان مشهورًا بعطفه على الأدباء والشعراء، فلم يتمكن من مقابلته بسبب صاحب له غليظ القلب ساءه أن يدخل رجل زري الهيئة مثل الديب على سيده الوزير فاشتد ذلك على الديب فقال يهجو الوزير وخادمه في شعر تظهر فيه خفة الظل:
قصدت إلى بابك الموصد
فطوردتُ بالخادم الأسود
غلام يمثل حظي لديك
وقلبك في البيت والمعبد
كأني حين طلبت الندى
إليك طلبت يد المعتدي
لقد عشت يا رب حتى رأيـ
ــت من الناس أقسى من الجامد
فخذني إليك وأنت الكريــ
ــم فقد ضقت بالزمن الأنكد
ولست أرى البؤس عارًا إذا
رأيت إبائي به مُسعدي
إن الديب قد عاش بائسًا، ومات بائسًا، ولم يرحم أصدقاؤه هذه البؤس بل كانوا يتخذونه مادة للسخرية، ووسيلة للاستهزاء، وكان شاعرنا يبادلهم احتقارًا باحتقار ويرد على بذاءاتهم ببذاءات أشد لا نستطيع ذكر نماذج لها.
رحمه الله وأبدله حياة أحسن من حياته في الدنيا
علاء الدين- عضو Golden
- عدد المساهمات : 5552
نقاط المنافسة : 51263
التقييم و الشكر : 1
تاريخ التسجيل : 13/01/2013
مواضيع مماثلة
» السلطان عبدالحميد طارد اليهودّ!
» عمر بهاء الدين الأميري.. شاعر الإنسانية المؤمنة
» شاعر المقاومة الفلسطينية صلاح جلال يرثي نفسه!
» شاعر سعودي يطلب من رغد صدام(؟؟؟)
» خربشات شاعر / نديم العين
» عمر بهاء الدين الأميري.. شاعر الإنسانية المؤمنة
» شاعر المقاومة الفلسطينية صلاح جلال يرثي نفسه!
» شاعر سعودي يطلب من رغد صدام(؟؟؟)
» خربشات شاعر / نديم العين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى