تراث القدس.. ذاكرة المكان والإنسان
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
تراث القدس.. ذاكرة المكان والإنسان
يتجلى
التاريخ في القدس أكثر مما يتجلى في أي مكان؛ باعتباره بُعدًا من أبعاد
الحاضر ... القدس ... بوابة الأرض إلى السماء ... مسرى الرسول صلى الله
عليه وسلم ومعراجه .. مهد المسيح عليه السلام ، وهي قلب فلسطين النابض
روحيًّا وحضاريًّا وتراثيًّا، وهي مدينة مقدسة ليس عند المسلمين فحسب، ولكن
عند النصارى واليهود أيضًا.
القدس
... المدينة الرابضة، والتي تَرْزَحُ منذ سنوات طويلة تحت نير الاحتلال
الصهيوني، تعيش المعاناة الفلسطينية بكامل أشكالها في ظل ما نُفِّذَ، وما
زال يُنَفَّذُ، وعلى جميع المستويات، من مشروعٍ صهيونيٍّ وُضع لترويض
المدينة بمجتمعها المقدسي، والذي إن كان يحمل في ظاهره التهويد، ولكنه إلى
جانب ذلك، يستهدف التهويد للمدينة بتاريخها وواقعها وخطابها، هويةً وسكانًا
ومؤسساتٍ.
في
وسط ذلك كله، يظهر جليًّا المشهدُ الثَّقافيُّ الْمَقْدِسِيُّ
بِهُوِيَّتِهِ الفلسطينيَّة العربيَّة، وبتاريخه الإسلامي المسيحي، يغادر
القدس عبر الأيام والسنوات والعقود. مخلِّفًا في القدس حاراتٍ ومراكزَ
ثقافيةً ومؤسساتٍ سياسيةً وأخرى مجتمعيَّة ومتاحفَ ونواديَ عريقةٍ وفنادقَ
ومواقعَ تاريخيَّةٍ سياحيَّةٍ، كلُّ ذلك يترك في القدس صمودًا يلهثُ
مُلاحَقًا من مكانٍ إلى مكانٍ، يحاول مُرْهَقًا الهروبَ من احتلالٍ لم
يَفْتَأْ يتربصُ به وبعناوينه الإنسانُ والشارع والبيت. ذلك الصمود الذي
يقاوِم التنازلَ واليأسَ، ويحملنا من شارع إلى شارع، في البلدة العتيقة،
يطمئننا على القيامة في حارة النصارى، وعلى أقصى الإسراء والمعراج بمسار
درب الآلام...
تُعَدُّ
قضية تراث القدس من القضايا الشائكة التي ستظل حيةً، ما دامت قضية المدينة
المقدسة نفسها حية، فالتراث العربي الإسلامي عمومًا، وتراث القدس خصوصًا،
همٌّ كبير من هموم الأمة، ولا بد من الإلحاح عليه، ليظلَّ حاضرًا عند
صُنّاع القرار والمؤسسات التراثية العربية والإسلامية، والغيورين على أمتهم
وتراثهم.
جاء
ذلك في كتاب "تراث القدس: ذاكرة المكان والإنسان"، الصادر عام 2008، والذي
تولى تنسيقَه وتحريرَه فيصل الحفيان، جامعًا بحوثَ ومداخلاتِ المؤتمر
الدولي الذي عقدتْه المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (معهد
المخطوطات العربية)، بالتعاون مع جمعية الدعوة الإسلامية العالمية (ليبيا)،
في القاهرة عام 2006، وشاركت فيه مجموعة كبيرة من الأساتذة والخبراء
والباحثين والمتخصصين المعنيِّين بقضية تراث القدس بجوانبه المختلفة من
داخل مصر وخارجها. وكان العدد الأكبر من داخل القدس من المسؤولين عن
المكتبات الرسمية والأهلية، وكان يهدِف بصورةٍ أساسيةٍ للخروج بما يمكن
تسميتُه وثيقة تراث القدس، وهي وثيقة للمخطوطات بصفة أساسية، ووثيقة أيضًا
لغير المخطوطات من ألوان التراث.
وتدور
مَحَاوِرُ الكتاب وموضوعاتُه حول الذاكرة التاريخية للمجموعات الخَطِّيَّة
التي تحتضنها القدسُ لِنَتَعَرَّفَ إلى كيفية تكوينها والمراحل التي مرّت
بها، وما طرأ عليها من تحوُّلاتٍ، وكيفيةِ وضع الخُطط والاستراتيجيات
الخاصة بِصَوْنِ هذه المخطوطات وتحسين أوضاع حِفْظِهَا، وكذلك التعريفِ
بالمخطوطات المكتوبة بالعثمانية (التركية بالحرف العربي)، والتي تدخل في
نسيج ذاكرة القدس نفسِها من ناحيةٍ، وذاكرة تراث هذه المدينة من ناحيةٍ
أخرى، إضافةً إلى البحث في الأوعية (غير المخطوطات)، مثل الوثائق
والسجلَّات والخرائط والرسومات والنقوش وغيرها، وهي ثروةٌ محفوظةٌ في
المدينة، وذاتُ علاقة وثيقة بها، وتثير قضايا مركَّبةً تاريخية وحضارية
وسياسية وثقافية ومعرفية عمومًا. وتم تقسيم هذا الكتاب إلى ثلاثة محاور..
جاء
المحور الأول بعنوان: "في قلب الذاكرة"، وتناول فكرة القدس المملوكية، من
خلال الاطِّلاع على أهمِّ المصادر التي كَتَبَتْ عن المدينة، مثل كتاب
"الأنس الجليل"، إذ ترجع أهمية المدينة بالنسبة للمماليك إلى أن تاريخَها
هو تاريخٌ دينيٌّ في الأساس. وقد يكون هذا الاهتمام له جانبٌ آخرُ يتمثل في
أن القدس كانت في العصر المملوكي مركزًا للحكَّام والأمراء المنفيِّين من
المماليك، وقد ورثت المرحلة المملوكية المرحلة الأيوبية القصيرة، وفيها
تطورت المدينة بشكلٍ كبير، فانتشرت المدارسُ والزوايا والخوانق في مختلَف
أنحاء البلدة القديمة في الحي الإسلامي، وتركّزت في محيط المسجد الأقصى من
الجهة الشمالية والغربية. وكانت المكتبات في العصر المملوكي ضمن المحتويات
الأساسية للمدارس والمساجد والزوايا، وفيها المصاحف وكتب العلوم الدينية
واللغة العربية والآداب. وتدلُّ كثرةُ الكتب والعلماء في العصر المملوكي
على اهتمام السلاطين والأمراء بالعلم، وتحسن الوضع الاقتصادي، وقد وصل
إلينا من كتب هذا العصر 864 مخطوطة ورسالة.
أما
المرحلة العثمانية فتُعَدُّ ضعيفةً بِأَبْنِيَتِهَا إذا ما قارنَّاها
بالمرحلة المملوكية، ولكن استمرَّ التعليم في العهد العثماني على النمط
المملوكي نفسِه، كما حدث توسُّعٌ في التعليم ونسخ المخطوطات؛ إذ بلغ عدد
المخطوطات، التي ترجع للمرحلة العثمانية والمُقْتَنَاةِ في مكتبات القدس،
إلى 3592 مخطوطةً، أي أن عَدَدَهَا أكثرُ من أربعة أضعاف المخطوطات في
العصر المملوكي.
وتُعَدُّ
مخطوطات الفقه في مكتبات القدس الأكثر عددًا في عناوينها من المواضيع
الأخرى، فعدُدها يزيد قليلًا عن 20 في المئة من العدد الإجمالي للمخطوطات،
وربما يعود ذلك إلى أن الذين جمَعوا هذه المخطوطات هم من العلماء والقضاة
والمُفْتِين، ومن ثمَّ فَهُمْ يحتاجون إلى كتب الفقه أكثرَ من غيرها،
للرجوع إليها في فتاواهم ودروسهم وأحكامهم الشرعية، ذلك أن الفقه هو نظام
حياة المسلمين، وهو الذي يسيِّر حياتَهم.
وتشير
المخطوطات الموجودة حاليًا في القدس إلى أن غالبيَّتَها كانت تُجْتَلَبُ
من القاهرة ودمشق، حيث كان العلماء والطلبة يشترونها خلال إقامتهم، وكان
بعض علماء القدس ينسخون مخطوطات في أثناء وجودهم خارج فلسطين ويحملونها
معهم إلى مدينتهم، ولكن هذا الواقع لا يعكس حقيقة ما كان عليه الأمر في
القرون الماضية، فقد تم نسخُ أعدادٍ كبيرةٍ من الكتب في القدس ذاتِها، ولكن
مئاتٍ من المخطوطات نُقِلَتْ خارج القدس بعد سقوط الدولة العثمانية.
ثم
جاء المحور الثاني بعنوان : "القدس في مِرْآة التراث"، الذي تحدث عن أن
مكتبات القدس تضمُّ عددًا متواضعًا من مخطوطات الحديث، على رغم أن معظم
التراث المخطوط في فلسطين موجود في مكتبات القدس، ويرجع ذلك إلى تعرُّضِ
خزائن المخطوطات في القدس لِنَكْبَتَيْنِ أساسيَّتين: الأولى على يد الجيش
البريطاني في الحرب العالمية الثانية، والثانية على يد الصهاينة عند
احتلالهم لفلسطين عام 1948، إذ دمرُّوا وسرقوا وصادروا واستولَوْا على كثير
من المخطوطات والوثائق المتعلقة بالقدس.
هذا،
إضافةً إلى عواملَ أخرى أسهمت في ضياع تراث المدينة المخطوط، تتلخص في عدم
القدرة على العناية به وحفظه من العوامل البيولوجية والجوية، إضافةً إلى
ما أصاب المدينة من حرائق وزلازل عبر التاريخ. وفي حالات كثيرة كانت
المخطوطات تضيع لجهل أصحابها بقيمتها، فَتَتْلَفُ أو تذهب إلى سارقي
المخطوطات بأبخس الأثمان.
واختص
هذا الجزء من الكتاب بدراسة نفائس مخطوطات الحديث الشريف الموجودة في
مكتبات القدس حاليًا، أخذًا في الاعتبار قِدَمَ النسخة، وكونَها مكتوبةً في
زمن المؤلِّف وبخطه، أو بخط أحد العلماء، إضافة إلى وجود إجازات على
النسخة أو قراءات أو سماعات مهمة على العلماء. وكثُرت المؤلفات التي وضعها
العلماء في فضائل بيت المقدس وتاريخها، ابتداءً من القرن الثالث الهجري إلى
القرن الرابع عشر الهجري، وتناول هذا الجزء كتابًا من هذه الكتب، كاشفًا
عن مؤلِّفه الأصلي، مُعَرِّفًا بالكتاب، ومبيِّنًا بعض ما في طبعته من
أغلاط. ويدعو هذا الجزء أيضًا إلى إيلاء كتب فضائل بيت المقدس وتاريخها
العناية التامة؛ فهرسةً وتحقيقًا وتعليقًا ونشرًا، لتبقى المدينة في
الذاكرة، وتبقى كتُبُها أمام الأعين.
كما
تناول هذا المحور قراءة في مخطوط "مَوَانِحُ الأُنس برحلتِي لوادي القدس"،
للشيخ مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي (1171 هـ/ 1750 م)، والذي يُعَدُّ من
أروع المخطوطات التاريخية التي تناولت تاريخ بيت المقدس وأكنافِ بيت
المقدس، فهو ليس مَسْرَدًا تاريخيًا عن دُرَّةِ المدائن، مدينةِ السلام
فحسب، بل هو وصفٌ حيٌّ لمشاهدات حية رآها اللقيمي بعينه، ووصفها بفكره
وبيانه، وسطرها بقلمه. وركز الجزء الأخير من هذا المحور على سجلات محكمة
القدس الشرعية، وهي مقسَّمة إلى جزأين: الأول موجز عن مشروع فهرسة الوثائق
والمخطوطات في الجامعة الأردنية، الذي بُوشِرَ العملُ به منذ مطلع عام
2006، والثاني عن أوقاف القدس الإسلامية من خلال سجلات محكمة القدس
الشرعية، ووقفية خاصكي سلطان على العمارة العامرة في القدس- أنموذجًا.
بينما
جاء المحور الثالث والأخير من الكتاب، وهو بعنوان: "تجاذبات الذاكرة
والمكان والإنسان"، وتناول القدس في الرؤية التاريخية والجغرافية العربية
والإسلامية، إذ تعامل الوعي الإسلامي التاريخي مع تاريخ القدس باعتباره
ركامًا من أحداث ذات أهمية مقدَّسة، وَرِثَتْهُ الأمة المسلمة، بحكم
استخلافها على النبوة، بعد أن نُزعت من بني إسرائيل الذين انحرفوا عنها.
وبهذا المعنى يرى الوعي الإسلامي أن الله استبدل أمة النبي، صلى الله عليه
وسلم، بالأمم السالفة، ولذلك فإن هذه الأمة هي آخر أمم الوحي قبل يوم
القيامة، لذا كان لا بد لهذا الوعي من أن يدوِّن سرديَّتَهُ لتاريخ القدس
في إطار سردية أشمل للتاريخ الكوني؛ إذ أَدْمَجَ الإسلامُ القدسَ في صُلْبِ
منظومته الجغرافية المقدسيَّة المكونة من البيت الحرام في مكة، والمسجد
النبوي في المدينة، والمسجد الأقصى في القدس.
ويركِّزُ
الجزء الأخير من هذا المحور على جهود المؤسَّسات السعودية في خدمة تراث
القدس، والتي تبدو في جوانبَ علميةٍ متنوعةٍ، منها: جمعُ مخطوطات القدس
وتصويرُها، وجمع الكتب والمراجع الوثائق والسِّجلات واللَّوْحات والرُّسوم
المتعلقة بالقدس، وإقامة الندوات والمؤتمرات العلميَّة عن القضيَّة
الفلسطينيَّة عمومًا، وقضيَّة القدس الشريف بخاصة، وإعداد البحوث
والدِّرَاسَات عن فلسطين والقدس، وأخيرًا إقامةُ مراكزَ وَوَحَدَاتٍ
عِلْمِيَّةٍ للعناية بتراث القدس، ومن هذه المؤسسات دار الملك عبد العزيز،
ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
الإسلامية، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
علاء الدين- عضو Golden
- عدد المساهمات : 5552
نقاط المنافسة : 51256
التقييم و الشكر : 1
تاريخ التسجيل : 13/01/2013
رد: تراث القدس.. ذاكرة المكان والإنسان
الف شكر لك ويعطيك العافيه
الامبراطورة- عضو Golden
- عدد المساهمات : 7679
نقاط المنافسة : 57271
الجوائز :
التقييم و الشكر : 0
تاريخ التسجيل : 17/01/2013
مواضيع مماثلة
» تراث المدن الإسلامية
» سيّد المكان !
» ذاكرة مجنونة في زمن الازدواجية
» تجليات المكان في السرد الحكائي العباسي
» نشيد للارض المحتلة (القدس)
» سيّد المكان !
» ذاكرة مجنونة في زمن الازدواجية
» تجليات المكان في السرد الحكائي العباسي
» نشيد للارض المحتلة (القدس)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى