إدْفعْ بالتي هي أحْسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم " الدكتور سلمان السعدي
صفحة 1 من اصل 1
إدْفعْ بالتي هي أحْسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم " الدكتور سلمان السعدي
بسم الله الرحمن الرحيم
إدْفعْ بالتي هي أحْسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم "
الدكتور سلمان السعدي
" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن
فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم (34) و ما يُلقاها إلا الذين
صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) "
" ادفع بالتي هي أحسن السيئة ... " المؤمنون 96
في هذه الآيات الكريمات قانون إلهي عظيم، و سر من أسرار النفس البشرية و علم النفس بديعٌ
فالعدو يمكن أن يصير كالولي الحميم، و هو الصديق القريب المصافي
هو سر تنصلح به نفوسٌ، و تسوءُ من دونه نفوس
كما أنه سر تنهض به مجتمعات، و تنهدم من دونه مجتمعاتٌ أ×رى
ما المقصود بقوله تعالى " ... إدفع بالتي هي أحسن ... "
هو مقابلة السيئة بالحسنة، و العفو عن المسيء، كما هو واضح من الآية
الثالثة، و هو ما كان منْ دَأْبِه صلى الله عليه و سلم مع من أساء إليه
كيف يمكن أن تقابل الإساءة ؟
يكون ذلك :
1/ إما العقوبة بالمثل، فذلك هو العدل، أو الإنصاف
2/ أو بالصبر على المسيء، و السكوت عنه، و هو كظم الغيظ
3/ أو بالعفو عنه و الغفران له و التفضُّل عليه، فذلك هو الإحسان أو التفضل
فأنت، إن أساءك مسيء، و أردت أن تشفي غيظك من غضبك عليه، بالحق، فذلك يكون بأن ترد له إساءته كيلا بكيل، و هو العدل
و أنت، إن عجزت عنه مطالب بالصبر عليه
أو، إن قدرت عليه، فأنت مطالب بالعفو عنه و الإحسان إليه و هذه هي قمة الفضيلة في مثل هذا الموقف
و لقد قال تعالى في صفة المؤمنين " و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس إن الله يحب المحسنين " آل عمران 134، و هي آية قد أخذنا منها المعاني التي أشرنا إليها آنفا
و مثلها قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل و الإحسان ... " النحل 90،
و قوله " ... و لا تنسوا الفضل بينكم ... " البقرة 237، و الفضل، و التفضل هو الإحسان
إن كظم الغيظ هو أعلى درجة من العدل
و الإحسان هو فوق كظم الغيظ، فهو أحسن منه، و هو أفضل الفضائل مقابل إساءة المسيء
و هناك آيات كثيرة تحض على الإحسان و تذكر بعظيم جزائه
قال تعالى " فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين " المائدة 13
" و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " هود 115
" أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125
" قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ... " الإسراء 53
و النفس مجبولة على مقابلة الرفق و اللين بمثله، و هما مَدعاة لأن يجتمع
الناس إلى الإنسان، لا أن ينفضوا عنه، و هي صفة أنعم الله تعالى بها على
رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم و على كل رسله
قال تعالى في صفة رسوله الكريم " فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " آل عمران 159، و هو كقوله تعالى لموسى و هارون عليهما السلام " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " طه 44، و لقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم خلقه القرآن، و هو الذي خاطبه تعالى بقوله " خذ العفو ... " و هو أمر بالعفو، بل بالتيسير في كل شيء، و عدم التشدد و التعسير، في نطاق الشرع و أحكامه
" ... و أمر بالعرف ... " أي بالمعروف و هو كل خير
" ... و أعرض عن الجاهلين " الأعراف 199، و هو أمر منه تعالى له بالحلم و الأناة عند الغضب
و هل قد رأيت في حياتك، قط من إنسان غضوب، غير مسامح و لا كريم، يستشعر له
الناس في قلوبهم المودة و المحبة، و يتقربون منه بالألفة و الانبساط ؟
أم هل قد رأيت إنسانا ودودا لطيفا كريما عفوا سهل المعاملة لا يألفُهُ الناس و لا يحبونه ؟
ذلك سر من أسرار المجتمعات عميق قد غفل عنه، واأسفاهُ، بعض مفكرين يعتقدون
في أنفسهم الذكاء و مصلحون يظنون في أنفسهم الألمعية و الدهاء
و ليت شعري،
هل تولد الرحمة من رحم القسوة ؟
أم هل تجيء المحبة من صلب الفظاظة و الغلاظة ؟
هل تولد الإهانة و الغضب في نفس متلقيها انكسار الرحمة أم انكسار الذل و الحقد الدفين ؟
إن العدل بل كظم الغيظ، بل الإحسان ! يفعل فعله في النفوس بعواطف مشابهة
لها تساويها أو هي أكبر منها و أعمق و أشد. و النفوس في طبيعتها و فطرتها
التي خلقها تعالى، حساسة رهيفة، و لا يظننَّ أحد أنها غير ذلك ما لم تلوثها
سخائم الآثام و الذنوب، و إن كل النفوس تنزع إلى المقابلة بالمثل، إذ أن
رد الفعل إنما هو من جنس الفعل، و هكذا هي طبيعة الأشياء
و النار لا تطفئها النار بل هي تهيجها و توريها، و إنما هي تُطفأُ بالماء
و من شيم النفوس حبها للإكرام من الغير، و هي قد طبعت على أن تحب من أحسن إليها
و الكلمة المخلصة و الصادرة عن القلب تفعل في النفس الحساسة الكثير الكثير،
و مثلها اللفتة العابرة، و النظرة الحانية، و همسة الإعجاب، و ربتة
التشجيع، و رنة الأسى، و غيرها كثير. على أنني لم أقصد قط في كل هذا،
المجاملة الكاذبة و النفاق المقيت، بل قد قصدت أن يكون قولك و فعله لله
وحده
إن النفوس في أصلها جميلة تحب الجمال، و هي تهفو إلى الحق، إذ هكذا خلقها سبحانه : هي طامحة دوما إلى ماهو أحسن و أجمل و أعلى
و إن القلوب لتميل إلى من يسكبها بالمحبة و الرحمة و العفو، و لا من يغذيها
بالحقدو الوِتْر، يستوي في ذلك الجميع، الكبار و الصغار و في كل آن و
مكان
و إن الكلمة الصادقة المخلصة لتفعل في النفس ما لا يفعله التبكيت المريم
حقا إن للكلمة لأثرا عظيما في النفوس، و هي فعل كبقية الأفعال، بل هي أشد
خطرا و أبعد أثرا من الأفعال المادية، و آية ذلك أنك تنسى الجُرح تُجْرَحُه
حتى من قبْل اندماله، و أما جراح النفوس فهي أبعد غورا، و هي كثيرا ما
تغور في أعماقها مختفية لبعض الوقت، ثم هي تتسبب من بعد ذلك في تدمير
النفوس و المجتمعات و تخريبها ذلك التخريب المروع الذي يعرفه كل من قد خبر
مثل تلك النفوس المكلومة في كرامتها و المجروحة في كيانها
إن الكثير من الناس ليغفلون عن آثار الكلمة و وقْعها في النفوس، حقا إن لها
لفعل السحر - و هل السحر في جوهله إلى سحر الكلمة بالنفس ؟ - لكنه قد
يكون سحرا جميلا رقيقا، و رحيما بناء، أو قد يكون هو الشر المستطير بعينه
إن لكل فعل، مهما صغُر في أعين الناس، أثرا يصيب صاحبه مثلما هو مصيب الشخص المقابل له، ثم إنه منتشر إلى ما حوله أيضا
فالحجر، ترميه في بركة الماء الراكدة، يولِّد من حوله، دوائر لا حصر لها تنتشر رويدا رويدا
و الموجة من الصوت، و الكلمة موجة تظل تسير في الجو، ثم هي تنعكس لتواصل سيرها من جديد
و الفعل في المجتمع أي فعلٍ تتبعه دوائر لا حصر لها، آثار تتسبب عنه إن خيرا بخير، و إن شرا بشر
و الفرد الذي يفتقد الأمان و المحبة و الود و العطف و الرحمة في بيته أو
مكان عمله أو مجتمعه، إنما هو يتخزن قدْر ذلك، بل و أكثر منه كثيرا خزائن
من الخوف و الحقد و الأنانية و البغضاء و القسوة و الاستعداد للظلم و
البطش. و هي لا يدري أحد كيف تنفجر و أين و هي لا شك منفجرة انفجارا مدمرا و
عاصفا، قد لا يُبقي على شيء
إذ أنه لا يضيع شيء أبدا في هذه الحياة
و ذلك هو مثل الأنابيب المستطرقة، كيفما تَسكُبْ فيها من جانبها يظهر من طرفها الآخر و بالكمية نفسها و القوة و العنفوان أنفسها
و لقد قيل : كيفما تزرع تحصد، و قيل : هذه العصا من تلك العصية
قال الإمام علي رضي الله عنه : " عامل الناس بأي خُلق يعاملوك به "
ابتسم في وجوههم يضحكوا في وجهك
أحسن إليهم يحبوك و يحسنوا إليك، أو أسئ إليهم يدروا لك الكيل بمثله أو أضعافا، فهكذا هي سنة الحياة
قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " الرحمن 55
لا يكون الجزاء غير ذلك أبدا
و لقد قاسى الأنبياء و الأئمة و المصلحون من شرار الناس و جهالهم الشيء
الكثير. و هم ابتلوا بصنوف الإمتحانات. و الإمتحان في الحياة لا يكون في
بطون الكتب، بل هو امتحان شاق لأنه لا خلاص مله من حقائق الحياة و الواقع
و ابتلي الرسول صلى الله عليه و سلم بما لا طاقة لأحد به من صنوف الأذى، و
الإساءات و الكراهية و الجهل لكنه كان القمة في رحمته بهم و في إحسانه و
صفحه و صبره عليهم، و هو قد ظل أبدا قدوة للناس أجمعين في أخلاقه القرآنية
الرفيعة
أولم يقل تعالى فيه " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " التوبة 128ـ
و قال " و إنك لعلى خلق عظيم " القلم 4
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي نبيا من الأنبياء
صلوات الله و سلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه و هو يمسح الدم عن وجهه، يقول
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "
و انظر إلى جبريل عليه السلام و قد أخبر الرسول الكريم بأن الله تعالى قد
بعثه حتى يأمره بأمر ليُطْبق على الكفار، انظر إلى جوابه صلى الله عليه و
سلم و قد لقي من قومه ما لقي و هو يقول : " بل ارجو أن يخرج الله من
أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا "
فهل قد وجدت رقة في القلب و رحمة أعلى مرتبة من ذلك ؟
او انظر إليه، و قد التفت إلى أهل مكة، بعد أن خطب خطبة الفتح فقال :
" يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟
قالوا : خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم
فقال عليه الصلاة و السلام " اذهبوا فأنتم الطلقاء ! "
قال المؤرخون : باتت مكة يوم الفتح، و ليس في حرمها رجل و لا امرأة إلا مسلم أو مسلمة
فانظر إلى أثر صفحه صلى الله عليه و سلم عنهم، و إحسانه إليهم، و رحمته بهم، انظر إلى ثر كل ذلك فيهم
أليس هو القائل صلى الله عليه و سلم ؟
" من يحْرم الرفق يحرم الخير كله "
" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه و لا ينزع من شيء إلا شانه "
" يسروا و لا تعسروا "
" و بشروا و لا تنفروا "
ليس الشديد بالصرعة ( الذي يكثر من صرع الناس ) إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
أولم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم هو القائل، في دستو إسلامي أخلاقي " الكلمة الطيبة صدقة ؟"
و انظر إلى هذه الأقوال، و هي مقتبسة من نهج البلاغة :
" لِنْ لمن غالظَك فإنه يوشك أن يلين لك
" خذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظَّفرين "
" لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك إلى صلته "
" أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبة لهم، و اللطف بهم و لا تكونن عليهم سبْعا ضاربا تغتنم أُكُلَهم فإنهم صنفان :
إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق ! يفرط منهم الزلل، و تعرض لهم
العلل، و يوتى على أيديهم في العمْد و الخطإ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل
الذي تحب و تحرص أن يعيط الله من عفوه و صفحه !
و لا تندمن على عفو
و لا تبْجحن ( تفرحن ) بعقوبة !
و لا تسرعن إلى بادرة ( ما يبدر من الحِدة عند الغضب في قول أو فعل ) وجدت عنها مندوحة ( متسعا أي مخلصا )!
فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك،
فإن ذلك يُطامِن إليك من طِماحك و يكف عنك من غربِك (حدتك) و يفيء إليك بما
عزَب ( غاب) عنك عن عقلك !
أطلق عن الناس عقدة كل حقد !
و اقطع عنك سبب كل وِتْر ( عداوة ) !
و تغاب عن كل ما لا يَضحُ ( يظهر ) لك !
- ... ممن يبطئ عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء و ممن لا يثيره العنف ! ...
و انظر في قول الشاعر القديم إلى أثر الكلمة العظيمة، فهي قد تنشر سلاما أو هي قد تشعل حربا :
فإن النار بالعودَيْن تُورى *** و إن الحرب أولُها الكلام
و المستصغر من الأمور قد يجُر إلى الأمور الوبيلة، فلقد قالت العرب قديما :
" و معظم النار من مستصغَر الشرر " مثلما قالت :
" الكلمة الطيبة تفثأُ الغضب " أي تسكته و تسكنه
و قال شوقي :
" ينال باللين الفتى بعض ما *** يعجز بالشدة عن غصبه
و جاء في المثل العامي البغدادي ما معناه " إن الكلمة الحلوة تُخرج الأفعى من ثقب الحائط "
و جاء في المثل الإنجليزي " إن الكراهية لتجُر إلى المزيد من الكراهية " hatred begets hatred
حقا إن الحقد ليجر إلى الحقد في سلسلة طويلة لا يوقفها إلا الحب و الحب الصادق
و الرفق و اللين هو خير كله، إلا أنه يجب أن يكون هو الآخر صادقا، لا أن يكون كلما قال الشاعر :
يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ***و يروغ منك كما يروغ الثعلب
و إن ابنك، إن هو رضع الحبَ منك و من أمه، لهو مغدقه و مرضعه لأولاده من
بعده مثلما قد رضعْته من والديك، و إن أنت لم ترضعه المحبة فقد أرضعته، و
أولاده الحقد و الكراهية و محبة إيذاء الغير، في سلسلة طويلة، في المجتمع
لا تنتهي و تشبه الدوائر التي تنشأ عن رميك للحجر في الماء
و اجمع كل ما قد قاله المفكرون و الفلاسفة و علماء النفس و الأطباء و
المعلمون عن الفضائل التي تحدثنا عنها و عن آثارها الباهرة، ثم انظر هل هي
تصل في شيء إلى قوله تعالى في الآيات الكريمة :
" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم " فصلت 34
لا و الله. لا يصل منها إلى قوله تعالى شيء أبدا، إنه الإعجاز الإلهي و هو
قانون عظيم من رب العالمين، يعلو به الأفراد و الأمم، مختارين سلم الحياة،
أو هم ينزلون
و إنه لا يأمل فرد أو مجتمع بصلاح من دون التسلح بهذا السلاح :
سلاح الدفع بالتي هي أحسن !
إدْفعْ بالتي هي أحْسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم "
الدكتور سلمان السعدي
" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن
فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم (34) و ما يُلقاها إلا الذين
صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) "
" ادفع بالتي هي أحسن السيئة ... " المؤمنون 96
في هذه الآيات الكريمات قانون إلهي عظيم، و سر من أسرار النفس البشرية و علم النفس بديعٌ
فالعدو يمكن أن يصير كالولي الحميم، و هو الصديق القريب المصافي
هو سر تنصلح به نفوسٌ، و تسوءُ من دونه نفوس
كما أنه سر تنهض به مجتمعات، و تنهدم من دونه مجتمعاتٌ أ×رى
ما المقصود بقوله تعالى " ... إدفع بالتي هي أحسن ... "
هو مقابلة السيئة بالحسنة، و العفو عن المسيء، كما هو واضح من الآية
الثالثة، و هو ما كان منْ دَأْبِه صلى الله عليه و سلم مع من أساء إليه
كيف يمكن أن تقابل الإساءة ؟
يكون ذلك :
1/ إما العقوبة بالمثل، فذلك هو العدل، أو الإنصاف
2/ أو بالصبر على المسيء، و السكوت عنه، و هو كظم الغيظ
3/ أو بالعفو عنه و الغفران له و التفضُّل عليه، فذلك هو الإحسان أو التفضل
فأنت، إن أساءك مسيء، و أردت أن تشفي غيظك من غضبك عليه، بالحق، فذلك يكون بأن ترد له إساءته كيلا بكيل، و هو العدل
و أنت، إن عجزت عنه مطالب بالصبر عليه
أو، إن قدرت عليه، فأنت مطالب بالعفو عنه و الإحسان إليه و هذه هي قمة الفضيلة في مثل هذا الموقف
و لقد قال تعالى في صفة المؤمنين " و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس إن الله يحب المحسنين " آل عمران 134، و هي آية قد أخذنا منها المعاني التي أشرنا إليها آنفا
و مثلها قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل و الإحسان ... " النحل 90،
و قوله " ... و لا تنسوا الفضل بينكم ... " البقرة 237، و الفضل، و التفضل هو الإحسان
إن كظم الغيظ هو أعلى درجة من العدل
و الإحسان هو فوق كظم الغيظ، فهو أحسن منه، و هو أفضل الفضائل مقابل إساءة المسيء
و هناك آيات كثيرة تحض على الإحسان و تذكر بعظيم جزائه
قال تعالى " فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين " المائدة 13
" و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " هود 115
" أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125
" قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ... " الإسراء 53
و النفس مجبولة على مقابلة الرفق و اللين بمثله، و هما مَدعاة لأن يجتمع
الناس إلى الإنسان، لا أن ينفضوا عنه، و هي صفة أنعم الله تعالى بها على
رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم و على كل رسله
قال تعالى في صفة رسوله الكريم " فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " آل عمران 159، و هو كقوله تعالى لموسى و هارون عليهما السلام " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " طه 44، و لقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم خلقه القرآن، و هو الذي خاطبه تعالى بقوله " خذ العفو ... " و هو أمر بالعفو، بل بالتيسير في كل شيء، و عدم التشدد و التعسير، في نطاق الشرع و أحكامه
" ... و أمر بالعرف ... " أي بالمعروف و هو كل خير
" ... و أعرض عن الجاهلين " الأعراف 199، و هو أمر منه تعالى له بالحلم و الأناة عند الغضب
و هل قد رأيت في حياتك، قط من إنسان غضوب، غير مسامح و لا كريم، يستشعر له
الناس في قلوبهم المودة و المحبة، و يتقربون منه بالألفة و الانبساط ؟
أم هل قد رأيت إنسانا ودودا لطيفا كريما عفوا سهل المعاملة لا يألفُهُ الناس و لا يحبونه ؟
ذلك سر من أسرار المجتمعات عميق قد غفل عنه، واأسفاهُ، بعض مفكرين يعتقدون
في أنفسهم الذكاء و مصلحون يظنون في أنفسهم الألمعية و الدهاء
و ليت شعري،
هل تولد الرحمة من رحم القسوة ؟
أم هل تجيء المحبة من صلب الفظاظة و الغلاظة ؟
هل تولد الإهانة و الغضب في نفس متلقيها انكسار الرحمة أم انكسار الذل و الحقد الدفين ؟
إن العدل بل كظم الغيظ، بل الإحسان ! يفعل فعله في النفوس بعواطف مشابهة
لها تساويها أو هي أكبر منها و أعمق و أشد. و النفوس في طبيعتها و فطرتها
التي خلقها تعالى، حساسة رهيفة، و لا يظننَّ أحد أنها غير ذلك ما لم تلوثها
سخائم الآثام و الذنوب، و إن كل النفوس تنزع إلى المقابلة بالمثل، إذ أن
رد الفعل إنما هو من جنس الفعل، و هكذا هي طبيعة الأشياء
و النار لا تطفئها النار بل هي تهيجها و توريها، و إنما هي تُطفأُ بالماء
و من شيم النفوس حبها للإكرام من الغير، و هي قد طبعت على أن تحب من أحسن إليها
و الكلمة المخلصة و الصادرة عن القلب تفعل في النفس الحساسة الكثير الكثير،
و مثلها اللفتة العابرة، و النظرة الحانية، و همسة الإعجاب، و ربتة
التشجيع، و رنة الأسى، و غيرها كثير. على أنني لم أقصد قط في كل هذا،
المجاملة الكاذبة و النفاق المقيت، بل قد قصدت أن يكون قولك و فعله لله
وحده
إن النفوس في أصلها جميلة تحب الجمال، و هي تهفو إلى الحق، إذ هكذا خلقها سبحانه : هي طامحة دوما إلى ماهو أحسن و أجمل و أعلى
و إن القلوب لتميل إلى من يسكبها بالمحبة و الرحمة و العفو، و لا من يغذيها
بالحقدو الوِتْر، يستوي في ذلك الجميع، الكبار و الصغار و في كل آن و
مكان
و إن الكلمة الصادقة المخلصة لتفعل في النفس ما لا يفعله التبكيت المريم
حقا إن للكلمة لأثرا عظيما في النفوس، و هي فعل كبقية الأفعال، بل هي أشد
خطرا و أبعد أثرا من الأفعال المادية، و آية ذلك أنك تنسى الجُرح تُجْرَحُه
حتى من قبْل اندماله، و أما جراح النفوس فهي أبعد غورا، و هي كثيرا ما
تغور في أعماقها مختفية لبعض الوقت، ثم هي تتسبب من بعد ذلك في تدمير
النفوس و المجتمعات و تخريبها ذلك التخريب المروع الذي يعرفه كل من قد خبر
مثل تلك النفوس المكلومة في كرامتها و المجروحة في كيانها
إن الكثير من الناس ليغفلون عن آثار الكلمة و وقْعها في النفوس، حقا إن لها
لفعل السحر - و هل السحر في جوهله إلى سحر الكلمة بالنفس ؟ - لكنه قد
يكون سحرا جميلا رقيقا، و رحيما بناء، أو قد يكون هو الشر المستطير بعينه
إن لكل فعل، مهما صغُر في أعين الناس، أثرا يصيب صاحبه مثلما هو مصيب الشخص المقابل له، ثم إنه منتشر إلى ما حوله أيضا
فالحجر، ترميه في بركة الماء الراكدة، يولِّد من حوله، دوائر لا حصر لها تنتشر رويدا رويدا
و الموجة من الصوت، و الكلمة موجة تظل تسير في الجو، ثم هي تنعكس لتواصل سيرها من جديد
و الفعل في المجتمع أي فعلٍ تتبعه دوائر لا حصر لها، آثار تتسبب عنه إن خيرا بخير، و إن شرا بشر
و الفرد الذي يفتقد الأمان و المحبة و الود و العطف و الرحمة في بيته أو
مكان عمله أو مجتمعه، إنما هو يتخزن قدْر ذلك، بل و أكثر منه كثيرا خزائن
من الخوف و الحقد و الأنانية و البغضاء و القسوة و الاستعداد للظلم و
البطش. و هي لا يدري أحد كيف تنفجر و أين و هي لا شك منفجرة انفجارا مدمرا و
عاصفا، قد لا يُبقي على شيء
إذ أنه لا يضيع شيء أبدا في هذه الحياة
و ذلك هو مثل الأنابيب المستطرقة، كيفما تَسكُبْ فيها من جانبها يظهر من طرفها الآخر و بالكمية نفسها و القوة و العنفوان أنفسها
و لقد قيل : كيفما تزرع تحصد، و قيل : هذه العصا من تلك العصية
قال الإمام علي رضي الله عنه : " عامل الناس بأي خُلق يعاملوك به "
ابتسم في وجوههم يضحكوا في وجهك
أحسن إليهم يحبوك و يحسنوا إليك، أو أسئ إليهم يدروا لك الكيل بمثله أو أضعافا، فهكذا هي سنة الحياة
قال تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " الرحمن 55
لا يكون الجزاء غير ذلك أبدا
و لقد قاسى الأنبياء و الأئمة و المصلحون من شرار الناس و جهالهم الشيء
الكثير. و هم ابتلوا بصنوف الإمتحانات. و الإمتحان في الحياة لا يكون في
بطون الكتب، بل هو امتحان شاق لأنه لا خلاص مله من حقائق الحياة و الواقع
و ابتلي الرسول صلى الله عليه و سلم بما لا طاقة لأحد به من صنوف الأذى، و
الإساءات و الكراهية و الجهل لكنه كان القمة في رحمته بهم و في إحسانه و
صفحه و صبره عليهم، و هو قد ظل أبدا قدوة للناس أجمعين في أخلاقه القرآنية
الرفيعة
أولم يقل تعالى فيه " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " التوبة 128ـ
و قال " و إنك لعلى خلق عظيم " القلم 4
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي نبيا من الأنبياء
صلوات الله و سلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه و هو يمسح الدم عن وجهه، يقول
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "
و انظر إلى جبريل عليه السلام و قد أخبر الرسول الكريم بأن الله تعالى قد
بعثه حتى يأمره بأمر ليُطْبق على الكفار، انظر إلى جوابه صلى الله عليه و
سلم و قد لقي من قومه ما لقي و هو يقول : " بل ارجو أن يخرج الله من
أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا "
فهل قد وجدت رقة في القلب و رحمة أعلى مرتبة من ذلك ؟
او انظر إليه، و قد التفت إلى أهل مكة، بعد أن خطب خطبة الفتح فقال :
" يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم ؟
قالوا : خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم
فقال عليه الصلاة و السلام " اذهبوا فأنتم الطلقاء ! "
قال المؤرخون : باتت مكة يوم الفتح، و ليس في حرمها رجل و لا امرأة إلا مسلم أو مسلمة
فانظر إلى أثر صفحه صلى الله عليه و سلم عنهم، و إحسانه إليهم، و رحمته بهم، انظر إلى ثر كل ذلك فيهم
أليس هو القائل صلى الله عليه و سلم ؟
" من يحْرم الرفق يحرم الخير كله "
" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه و لا ينزع من شيء إلا شانه "
" يسروا و لا تعسروا "
" و بشروا و لا تنفروا "
ليس الشديد بالصرعة ( الذي يكثر من صرع الناس ) إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
أولم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم هو القائل، في دستو إسلامي أخلاقي " الكلمة الطيبة صدقة ؟"
و انظر إلى هذه الأقوال، و هي مقتبسة من نهج البلاغة :
" لِنْ لمن غالظَك فإنه يوشك أن يلين لك
" خذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظَّفرين "
" لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك إلى صلته "
" أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبة لهم، و اللطف بهم و لا تكونن عليهم سبْعا ضاربا تغتنم أُكُلَهم فإنهم صنفان :
إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْق ! يفرط منهم الزلل، و تعرض لهم
العلل، و يوتى على أيديهم في العمْد و الخطإ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل
الذي تحب و تحرص أن يعيط الله من عفوه و صفحه !
و لا تندمن على عفو
و لا تبْجحن ( تفرحن ) بعقوبة !
و لا تسرعن إلى بادرة ( ما يبدر من الحِدة عند الغضب في قول أو فعل ) وجدت عنها مندوحة ( متسعا أي مخلصا )!
فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك،
فإن ذلك يُطامِن إليك من طِماحك و يكف عنك من غربِك (حدتك) و يفيء إليك بما
عزَب ( غاب) عنك عن عقلك !
أطلق عن الناس عقدة كل حقد !
و اقطع عنك سبب كل وِتْر ( عداوة ) !
و تغاب عن كل ما لا يَضحُ ( يظهر ) لك !
- ... ممن يبطئ عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء و ممن لا يثيره العنف ! ...
و انظر في قول الشاعر القديم إلى أثر الكلمة العظيمة، فهي قد تنشر سلاما أو هي قد تشعل حربا :
فإن النار بالعودَيْن تُورى *** و إن الحرب أولُها الكلام
و المستصغر من الأمور قد يجُر إلى الأمور الوبيلة، فلقد قالت العرب قديما :
" و معظم النار من مستصغَر الشرر " مثلما قالت :
" الكلمة الطيبة تفثأُ الغضب " أي تسكته و تسكنه
و قال شوقي :
" ينال باللين الفتى بعض ما *** يعجز بالشدة عن غصبه
و جاء في المثل العامي البغدادي ما معناه " إن الكلمة الحلوة تُخرج الأفعى من ثقب الحائط "
و جاء في المثل الإنجليزي " إن الكراهية لتجُر إلى المزيد من الكراهية " hatred begets hatred
حقا إن الحقد ليجر إلى الحقد في سلسلة طويلة لا يوقفها إلا الحب و الحب الصادق
و الرفق و اللين هو خير كله، إلا أنه يجب أن يكون هو الآخر صادقا، لا أن يكون كلما قال الشاعر :
يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ***و يروغ منك كما يروغ الثعلب
و إن ابنك، إن هو رضع الحبَ منك و من أمه، لهو مغدقه و مرضعه لأولاده من
بعده مثلما قد رضعْته من والديك، و إن أنت لم ترضعه المحبة فقد أرضعته، و
أولاده الحقد و الكراهية و محبة إيذاء الغير، في سلسلة طويلة، في المجتمع
لا تنتهي و تشبه الدوائر التي تنشأ عن رميك للحجر في الماء
و اجمع كل ما قد قاله المفكرون و الفلاسفة و علماء النفس و الأطباء و
المعلمون عن الفضائل التي تحدثنا عنها و عن آثارها الباهرة، ثم انظر هل هي
تصل في شيء إلى قوله تعالى في الآيات الكريمة :
" و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم " فصلت 34
لا و الله. لا يصل منها إلى قوله تعالى شيء أبدا، إنه الإعجاز الإلهي و هو
قانون عظيم من رب العالمين، يعلو به الأفراد و الأمم، مختارين سلم الحياة،
أو هم ينزلون
و إنه لا يأمل فرد أو مجتمع بصلاح من دون التسلح بهذا السلاح :
سلاح الدفع بالتي هي أحسن !
الامبراطورة- عضو Golden
- عدد المساهمات : 7679
نقاط المنافسة : 57271
الجوائز :
التقييم و الشكر : 0
تاريخ التسجيل : 17/01/2013
مواضيع مماثلة
» الشاعر السعدي:المقارنة بين الحجي وغازي القصيبي تكشف البؤس من التباؤس!
» (( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.. ))
» الطبيب النفسى: المراوغة... قلة المصداقية تجعل بينك وبين الناس مسافات
» قصة إسلام الدكتور مراد هوفمان
» حكم وأقوال واقتباسات د.سلمان العودة
» (( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة.. ))
» الطبيب النفسى: المراوغة... قلة المصداقية تجعل بينك وبين الناس مسافات
» قصة إسلام الدكتور مراد هوفمان
» حكم وأقوال واقتباسات د.سلمان العودة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى