عبدالسلام العجيلي على مرفأ الذاكرة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
عبدالسلام العجيلي على مرفأ الذاكرة
مرفأ الذاكرة لدى كاتب هذه السطور، على اتساعه وطول أرصفته، يضيق بالأحداث والصور والأقوال التي تتزاحم فيه وعليه، وليس ذلك مستغرباً على ما مر بي في ثمانين عاماً من العمر قد انقضت لي، وعلى ظروف مختلفة عشت فيها ونشاطات مارستها في مجالات العلم والأدب، ومجالات السياسة والحرب، وفي عملي كطبيب، وفي الأسفار والعلاقات الاجتماعية، وفي غير هذه وتلك وهاتيك.
أبعد ما استقر في ذاكرتي من صور هي بلا شك صورة ترجع إلى سني طفولتي الأولى، وذلك حين كنت في الثالثة من عمري أو حين خطوات أولى خطواتي في سنتي الرابعة، عرفت مبلغي من العمر أيام هذه الصورة بعدما كبرت وسمعت ما رواه أبناء بلدتي الصغيرة من تاريخ هذه البلدة، وهي الرقة على شاطئ الفرات في شمالي سوريا، ومن حكايات الأحداث التي مرت بها زمن طفولتي، تلك الصورة هي منظر جسم لامع، فضي اللون، يرتسم على صفحة سماء خفيفة الزرقة ويسير على تلك الصفحة بخط مستقيم وبحركة تبدو بطيئة لبعدها عن عيني، ثم منظر قطع صغيرة، مستطيلة، تتساقط من ذلك الجسم اللامع، قطعتان أو ثلاث أو أربع، لا أذكر اليوم كم كان عددها على الضبط، تتساقط ويحجب عن بصري مكان وقوعها جدران المنازل اتلي كانت في الجانب المقابل للقبو الذي كنت أتطلع من بابه الضيق إلى السماء فوقي، ذلك القبو الذي كنت فيه مع أمي، ومع نساء كثيرات معهن أطفالهن، كلهن يتزاحمن ليتطلعن من باب القبو إلى السماء وإلى تلك القطع المتساقطة من ذلك الجسم الفضي السائر على صفحة السماء.
بداية مع الحرب
عرفت عندما كبرت أن الجسم السائر ذاك كان طائرة حربية، وأن تلك القطع المتساقطة قنابل مهلكة كانت الطائرة تلقيها على مواقع متفرقة من بلدتنا، وأن ذلك حدث في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر من عام 1921، هذه أبعد ما حفظته ذاكرتي من صور، ولعل استقرار هذه الصورة بهذه القوة في ذاكرة الطفل الصغير الذي كنته قد ترك في لا وعيي تأثيراً اصطبغت به حياتي المقبلة في كثير من جوانبها، والجوانب الفكرية والسياسية منها بصورة خاصة، تلك الطائرة كانت واحدة من طائرات جيش فرنسا الذي غزا بلادنا واحتلها باسم الانتداب بعدما غدر الحلفاء بالعرب وتقاسموا بلادهم، وإلقاء قنابلها على بلدتي الرقة، كان لأن هذه البلدة أصبحت في ذلك الحين مقراً لحركة وطنية، أعلنت الرقة وما حولها دولة عربية مستقلة لا تعترف بانتداب فرنسا، فجندت جيشا وجهته إلى حلب لمحاولة استنقاذها من يد المحتل الفرنسي، ذلك تاريخ مجهول لبلدتي الصغيرة بسطته في كتاباتي بعد مرور عقود طويلة من السنين على أحداثه، وليس هنا مكان روايته، ولكني أردت القول إنه قد يكون في استقرار هذه الصورة في خاطري طيلة ما يفوق ثلاثة أرباع القرن إرهاصاً لما ستكون عليه أفكار ذلك الطفل ويكون عليه سلوكه وتصرفه حين يغدو شاباً وبعد أن يكتهل ثم يشيخ.
تتزاحم الصور على مرفأ الذكريات بعد تلك الصورة الأولى المفرطة في البعد، كبر الطفل في الخامسة من عمره، وانتقل بذلك من حضن أمه إلى حضن المدرسة، كان انتقالاً مبكرا بالنسبة لانتقال أنداده الذين كانوا يفوقونه في السن، فأكسب ذلك مكاسب وعرضه لبعض الهشاشة في تكوينه العلمي لم يتخلص منها إلا بعد عناء وزمن طويل.
عالمي الجميل
كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل، ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضارب أعمامي في البادية حول بلدة الرقة، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب في الربيع تحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء، كنت أتردد على المطحنة لأحمل لأبي طعام غداءه وعلبة دخانه اليومية من منزلنا، ولأتأمل في الرحى الدائرة وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، ولأتطلع إلى المحرك ذي الدولابين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركات منتظمة عنيفة ورشيقة في آنٍ واحد، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب المحرك، وهو يدور على دولابه، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعاً إلى قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر، سارع أرمين، ميكانيكي المطحنة الأرميني، إلي واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلك الصبي، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك.
أما مضارب أعمامي فقد كنت أتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعة التالي له، كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم، نصف حضر يسكنون منازل البلدة الحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهم يتنقلون بها بين المراعي، والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنة بكاملها، ولهذا كنت ألجأ إلى منازل أعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت لي الفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم، وأنام تحت سماء الربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة، إلى أحاديث المتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوا بنعاج القطيع إلى أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج.
منعطف حياتي
بعد الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى جلب لمتابعة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحوي مدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعد ذلك المنعطف الكبير في حياتي، أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض، الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي في مستشفاه نحوا من عشرة أيام، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاما كاملا، بقيت العام التالي بطوله في الرقة بناء على إشارة الدكتور مونييه، وبقيت عامين بعده فيها بناءً على رغبة الوالد، الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه في إدارة أعماله وأملاكه، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
كان ذلك مصيرا قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة، ولكن ربَّ ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، كانت هذه الأعوام الثلاثة المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنه ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحت إشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح لي ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم على جمالهم، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش، وهي غير الأصائل من الخيل، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورواية أحداث سالفة وجيدة، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفاع الذي قاربته أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث الكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو على رواد المضافة، بعد صلاة العشاء كل ليلة، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدي أو من رواية سرور أغا وصالحة هانم وسلطان عبدالحميد المترجمة عن التركية، وحين كانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلك العم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة المحتل وتسفيه سياسته، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج والتنديد.
القصيدة الأولى
كان تلامذة مدرستنا الوحيدة في البلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها "وفاء السموءل"، كنت أحضر معهم تجاربها وأشاركهم في إعدادها، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة، كانت أول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيان ليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمي كناظم لها، كان اشتراطي هذا نابعا من انطوائي على نفسي وحياء مفرط يجعلني أتهيب من كل إشارة تميزني عن الآخرين، بدأ تمثيل المسرحية مسبوقا بإلقاء تلك القصيدة، ولكن ما اشترطته على ملقيها لم يدخل في حيز التنفيذ فقد أعلن ذلك الفتى اسمي بأعلى صوته منوها بأني أنا ناظم القصيدة، وما جرى في اليوم التالي لحفلة التمثيل أن أقرباء أبي وأصدقاءه تكاثروا عليه بلومهم إياه على دفن مواهبي في العلم والأدب تحت غبار المطحنة وفي زيتها، وبمطالبتهم له بإعادتي إلى حلب كي أتابع الدراسة التي هجرتها في ثانويتها.
وهكذا عدت إلى حلب ومدرسة التجهيز الثانوية فيها، وقد ضاعت على أربع سنوات من الدراسة، استدركت سنتين من تلك الأربع في فحص تأهيل، اجتزته بنجاح، وضاعت مني سنتان، ولكن هل ضاعت مني تلكما السنتان حقا؟ الصحيح أنه لا. سنوات الانقطاع التي ضاعت مني، أو عليَّ، اكتشف بعدها أنها أكسبتني فوائد لا تقدر بثمن، عدا نضج الفكر وتجربة العمل ومعرفة أصناف الناس التي تحدثت عنها، وجدتني قد حصلت من قراءتي على زاد من المعرفة في علوم شتى أتفوق بها على أقراني في المدرسة التي عدت إليها، وأحيانا أتفوق بها على أساتذتي في بعض تلك العلوم. وأهم من ذلك كله اكتشف أن تهيبي من الحساب والرياضيات والعلوم الحقيقية، الذي كنت أحسبه ضعفا وعجزا مني فيها، اكتشفت أن ذاك التهيب قد فارقني كلية وتحول إلى مقدرة وولع شديد بتلك العلوم.
ثابرت في المدرسة الثانوية على قرزمة الشعر، أعلى نظمه نظما هزيلا في أول الأمر، إلى أن استقام لي أمره بالاستمرار وبتوسع المعرفة، إلا أني لم أتعد فيه المزاح والتسلية، أسخر فيه من رفاقي وأرسم به صوراً ضاحكة لأساتذتي، وأحيانا أنظم به نظريات الهندسة ودروس الكيمياء في أراجيز ساخرة على طريقة ألفية ابن مالك! ذلك أن تعلقي الكبير والجاد كان بالعلوم الحقيقة من فيزياء ورياضيات، يعجبني العناء الذي أتحمله في إتقانها والنجاح في دروسها، في حين أن النجاح في الأدب، نثره وشعره، كان يواتيني بسهولة ويشهد بنتائجي المشرفة فيه المعلمون والرفاق، وإلى جانب هذا نمت في نفسي، مع تقدمي في الصفوف العليا، بذرة حب العمل العام، العمل لصالح الذين أنا منهم في مجتمعي وفي الوطن الذي هو وطني، أصبحت في السنين الأخيرة من الدراسة الثانوية الرئيس المنتخب للجان الطلاب، والمؤسس لمجلة أصدرتها مع رفاقي وأسميتها "صوت الطالب"، والمشارك مع إخواني في الإضرابات والتظاهرات ضد المحتل الفرنسي، والمتكلم باسم أولئك الإخوان حين يقتضي الأمر المديرين والوزراء.
أسماء مستعارة
وبمثل هذا التستر والتوقيع بالأسماء المستعارة نشرت كتابات أدبية كثيرة في عدد من الدوريات المشتهرة في ذلك الزمن، مثل مجلة "الحديث" في حلب و"المكشوف" في بيروت، وهي دوريات كانت تحفل بما يكتبه أساطين الفكر والثقافة ويطمح الكثيرون إلى أن تظهر أسماؤهم فيها، أما أنا فكنت قانعاً بأن يجاور إنتاجي الأدبي في تلك الدوريات إنتاج المشاهير، وبأن يلقى الإعجاب من القراء دون أن يعرف أحد، إلا الندرة من أصحابي، بأني كاتب تلك القصص أو المسرحيات أو ناظم تلك القصائد، واستمر هذا إلى أن نلت شهادة البكالوريا من صف الرياضيات لا من صفوف الفلسفة أو الآداب، وإلى أن احتضنتني الجامعة السورية في دمشق، في دراستي الطب فيها، بعد احتضان مدرسة التجهيز الثانوية لي في حلب.
العلم، والأدب، والعمل العام، هي المهام الرئيسية الثلاث التي حملتها معي من مرحلة الدراسة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، ثم إلى جميع مراحل حياتي التالية لهذه وتلك.
في العلم كنت الطالب الجاد والدائم النجاح، ثم المتابع لكل ما هو جديد في الميدان الذي اخترته لحياتي، ميدان الطب والعلوم التي يستند إليها، والمطبق لمعرفتي بكل إخلاص وتفانٍ على من هم بحاجة إليها في ذلك الميدان، وفي الأدب تابعت مسيرتي كهاوٍ له، أعتبره متعة وتسلية، ولكني لا أستهين به ولا تهاون في تلمس الإتقان والجودة فيه، ظللت ردحاً من الزمن، سبع سنوات أو ثمان، أنشر ما أكتبه في الدوريات المختلفة متسترا وراء الأسماء المستعارة، كنت أنتقل من اسم إلى آخر، معميا على من يريد معرفتي، إلى أن وقعت في فخ أحد الصحفيين الذي كشفني وعرف بي ثم أقنعني، بعد أن أصبح صديقا لي، بأن ليس من حرج في أن يعرفني قرائي ولا من خطر في أن تلحق بي الشهرة! وفي هذا المجال أذكر أن أحد الدارسين أحصى الأسماء المستعارة التي كتبت بها بين عامي 1936 و1970 فوجدها تتجاوز اثنين وعشرين اسما.
أما عن العمل العام، فقد كان استمراراً لما كنت بدأته في دراستي الثانوية، لا مجال في العمل العام للمجهولية وللتستر وراء الأسماء المستعارة، عرفت بين أقراني بالنشاط في هذا الميدان، وعندما بلغت الصفوف المتقدمة أصبحت رئيس لجنة الطلاب في معهدي لعدة أعوام ومشاركا مرموقا في فعاليات الأوساط الجامعية من ثقافية ورياضية وسياسية. وكانت تلك مقدمة لانغماري، بعد تخرجي في الجامعة السورية طبيبا، في خصم العمل السياسي في بلدي، قمت بترشيح نفسي للنيابة في بداية عملي كطبيب في بلدتي، الرقة، وفزت بعضوية المجلس النيابي السوري عنها، وكان ذلك في صيف عام 1947، أعني منذ أكثر من نصف قرن مضى.
ذكريات العمل السياسي، كما باشرته بنفسي في نحو من سنتين كنت فيهما أحد ممثلي الشعب في المجلس النيابي ذاك، هي من الكثرة والأهمية بحيث يضيق بها مرفأ الذاكرة. كانت سوريا قد نالت استقلالها التام بجلاء جيوش المحتل عنها منذ سنة واحدة فانصرف حكامها ووراءهم الشعب إلى الجهاد الأكبر بعد الجهاد الأصغر، أعني إلى معركة البناء واستعادة الحقوق المغتصبة والسعي لتحقيق المثل العليا. الذكريات كثيرة كما قلت. وأقف منها على ذكريات وقائع معينة كانت من أهم ما مر بي تأثيراً لتفكيري وتوجيها لسلوكي، تلك هي الوقائع التي شهدتها أو شاركت فيها ثم تابعت مجرياتها ومازلت لها متابعا، وأعني بها وقائع القضية الفلسطينية.
التطوع من أجل فلسطين
احتللت مقعدي في مجلس النواب في وقت وصلت فيه القضية الفلسطينية إلى قمة التأزم، تألب العالم الغربي، ومعه الاتحاد السوفييتي، على حق العرب وصدر قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، على أن يطبق هذا القرار في 15 مايو سنة 1948. لم يرض العرب، شعوبا وحكومات بالقرار الجائر وتنادوا إلى الحيلولة دون تنفيذه بقوة السلاح عن طريق الجهاد الشعبي المتمثل بأفواج جيش الإنقاذ، وهي أفواج تألفت من متطوعي البلاد العربية المختلفة، أولا، ثم بتدخل الجيوش السمية إذا اقتضى الأمر بعد ذلك، وفي غمرة أحداث تلك الفترة الحرجة وجدتني أهجر مهامي كنائب في المجلس وألتحق متطوعا بمجاهدي فوج اليرموك الثاني من جيش الإنقاذ، وهو الفوج السوري من ذلك الجيش، يرافقني في ذلك الالتحاق زميلي في النيابة الأستاذ أكرم الحوراني، أكون في مقدمة من دخلوا الأرض الفلسطينية من المجاهدين، سعيا وراء نصرة فلسطين العربية واستنقاذها من مخالب تحالف الصهيونية العالمية وأعداء العرب في العالم الغربي على أرض العرب المقدسة.
كان فوج اليرموك الثاني بقيادة أديب الشيشكلي الذي كان ضابطا برتبة رئيس وهي الرتبة التي تحول اسمها اليوم إلى رائد أو مقدم، وكان دخولنا إلى فلسطين من الحدود اللبنانية، جنوب بنت جبيل والنبطية، في ليلة الثامن من شهر يناير سنة 1948. باشرنا عملياتنا الاستكشافية والحربية التي لا مجال للتفصيل عنها طيلة الشهور الخمسة التي سبقت موعد دخول قرار التقسيم مرحلة التنفيذ. وإذا كنت قد عدت بعد تلك الشهور إلى مكاني في مجلس النواب متابعا مسيرتي السياسة تحت قبة البرلمان وفي المحافل المختلفة وعلى صفحات الجرائد والمجلات، فإن التجربة التي عدت بها من المعاناة على أرض الواقع في فلسطين فتحت عيني على أمور كثيرة وبصرتني بأمور كثيرة كنت بعيدا عن معرفتها مثل الآخرين الذين لم يتح لهم معايشة ما عايشته أنا. اكتشفت في تلك التجربة أشياء كثيرة عن سير أمورنا، وعن خصائص شعوبنا، وعن أقدار رجالنا، ومن سوء الحظ أن تجربتي، كما رددت في مناسبات كثيرة، قد تكشفت لي عما خيب أمل الشاب المثالي الذي كنته في تلك الأيام، ومن سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام 1948 إلى اليوم جاء مؤيدا تقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكاناتنا، وهي التقديرات التي وضعتها لنفسي في ذلك الحين.
العودة للأدب
وأعود إلى الأدب مرة أخرى خاتماً به هذا الحديث الطويل، لقد دأبت على أن أعتبره لنفسي وأذكره للآخرين كهواية، ممتعة وسامية في آنٍ واحد، أمارسها في غير عناء وفي قليل من الجد، ولكن، كما قال الشاعر القديم:
صار جدًا ما لهونا به ربَّ جدٍ جرَّه اللعب!
فما يطفو على ألوان النشاط المختلفة في حياتي، وما يعرفني به الآخرون ويحاورونني فيه ويتقصون أخباري فيه، هو الأدب قبل الطب وقبل السياسة وقبل فعاليات مختلفة أخرى أجدني ما قصرت فيها عن أداء ما وجب علي ولا عن تقديم ما قدمته، متطوعا ومفيدا، للناس حولي وللقيم والمعتقدات التي أومن بها، عطاءاتي الأخرى تنحصر معرفتها في حلقات ضيقة وبين أناس محدودين، أو أن دوامها لا يمتد إلى زمن طويل. أما العطاء الأدبي مني ومن أمثالي فإنه، إذا كان يحمل صفات تؤهله لذلك، طويل الديمومة وعريض الجمهور، لقد انتهى بي إصرار الآخرين على تقديم صفتي الأدبية على سائر صفاتي الأخرى أن تابعتهم أنا إلى الإيمان بقيمة هذه الصفة وأكاد أقول إن ذلك حدث على الرغم مني!
ولعلي في هذه الواقعة التي أرويها للقراء في مختتم المطاف أضرب مثلاً لهذا الذي ذكرته عن تقدير من عدوني بتقديرهم لما رأوه في من موهبة تستحق التقدير.
حدث ذلك منذ ستة أعوام أو سبعة، زارني في بلدتي السيد. لوشون، وهو الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق أيام ذاك، وكان قارئا لأعمالي المترجمة إلى الفرنسية ومعجبا بها، وفي زيارة لي إلى دمشق بعد عودته هو إليها اتصل بي هاتفيا وسألني عما إذا كان بإمكاني أن أمر عليه، في مكتبه، قلت له: أفعل، وبكل سرور، فوجئت حين دخلت مكتب الملحق الثقافي الفرنسي بأن رأيت صورة كبيرة لي معلقة على أحد جدران المكتب. كانت صورة قديمة، أخذت لي في أيام الصبا، أبدو فيها ممتطيا فرساً أصيلة كنا نملكها في ذلك الزمن ومرتديا ثيابا عربية، استغربت وجود هذه الصورة وسألته عنها. ابتسم وقال إنه عثر عليها بحجم صغير حين زار الرقة، وإنه كبرها وأحاطها بهذا الإطار في بيروت، وإنه استدعاني ليرجوني أن أضع توقيعي له عليها. لم أملك إلا أن أجاريه في الابتسام وقلت له: ولكنك تضع صورتي في صدر مكتبك الرسمي، هذا المكان ليس لي، إنه مكان المسيو ميتران! كان فرنسوا ميتران يومذاك هو رئيس الجمهورية الفرنسية. كان جواب الملحق الفرنسي، الموظف في سفارة بلاده، هذه الكلمة الغربية التي قالها بلهجة اقتناع: أنت قيمة أكثر ثباتا من المسيو ميتران!بالطبع لم أكن من الغرور، أو من فرط الإعجاب بالنفس، بحيث أصدق أن قيمتي تفوق قيمة رجل كان رئيس جمهورية فرنسا في يوم من الأيام وكان مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمن رئاسته، ولكن كلمة المجاملة التي نطق بها مخاطبي الكريم، السيد. لوشون، تصور بجلاء اهتمام نخبة المثقفين، إن لم أقل عامتهم، في عالمنا الحاضر بالأدب وبمبدعيه وتقديرهم لهم وله. وعلى ما يشبه الرغم مني، كما أسلفت القول، أصبحت مجرورا إلى هذا التقدير وذلك الاهتمام بالفن الذي بدأت فيه هاويا مثل المستهين ثم انتهيت إلى أن أجده أجدر ما أختم به هذا الحديث عن مرفأ الذاكرة، وعن الخواطر التي رست فيه بعد طول الإبحار.
أبعد ما استقر في ذاكرتي من صور هي بلا شك صورة ترجع إلى سني طفولتي الأولى، وذلك حين كنت في الثالثة من عمري أو حين خطوات أولى خطواتي في سنتي الرابعة، عرفت مبلغي من العمر أيام هذه الصورة بعدما كبرت وسمعت ما رواه أبناء بلدتي الصغيرة من تاريخ هذه البلدة، وهي الرقة على شاطئ الفرات في شمالي سوريا، ومن حكايات الأحداث التي مرت بها زمن طفولتي، تلك الصورة هي منظر جسم لامع، فضي اللون، يرتسم على صفحة سماء خفيفة الزرقة ويسير على تلك الصفحة بخط مستقيم وبحركة تبدو بطيئة لبعدها عن عيني، ثم منظر قطع صغيرة، مستطيلة، تتساقط من ذلك الجسم اللامع، قطعتان أو ثلاث أو أربع، لا أذكر اليوم كم كان عددها على الضبط، تتساقط ويحجب عن بصري مكان وقوعها جدران المنازل اتلي كانت في الجانب المقابل للقبو الذي كنت أتطلع من بابه الضيق إلى السماء فوقي، ذلك القبو الذي كنت فيه مع أمي، ومع نساء كثيرات معهن أطفالهن، كلهن يتزاحمن ليتطلعن من باب القبو إلى السماء وإلى تلك القطع المتساقطة من ذلك الجسم الفضي السائر على صفحة السماء.
بداية مع الحرب
عرفت عندما كبرت أن الجسم السائر ذاك كان طائرة حربية، وأن تلك القطع المتساقطة قنابل مهلكة كانت الطائرة تلقيها على مواقع متفرقة من بلدتنا، وأن ذلك حدث في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر من عام 1921، هذه أبعد ما حفظته ذاكرتي من صور، ولعل استقرار هذه الصورة بهذه القوة في ذاكرة الطفل الصغير الذي كنته قد ترك في لا وعيي تأثيراً اصطبغت به حياتي المقبلة في كثير من جوانبها، والجوانب الفكرية والسياسية منها بصورة خاصة، تلك الطائرة كانت واحدة من طائرات جيش فرنسا الذي غزا بلادنا واحتلها باسم الانتداب بعدما غدر الحلفاء بالعرب وتقاسموا بلادهم، وإلقاء قنابلها على بلدتي الرقة، كان لأن هذه البلدة أصبحت في ذلك الحين مقراً لحركة وطنية، أعلنت الرقة وما حولها دولة عربية مستقلة لا تعترف بانتداب فرنسا، فجندت جيشا وجهته إلى حلب لمحاولة استنقاذها من يد المحتل الفرنسي، ذلك تاريخ مجهول لبلدتي الصغيرة بسطته في كتاباتي بعد مرور عقود طويلة من السنين على أحداثه، وليس هنا مكان روايته، ولكني أردت القول إنه قد يكون في استقرار هذه الصورة في خاطري طيلة ما يفوق ثلاثة أرباع القرن إرهاصاً لما ستكون عليه أفكار ذلك الطفل ويكون عليه سلوكه وتصرفه حين يغدو شاباً وبعد أن يكتهل ثم يشيخ.
تتزاحم الصور على مرفأ الذكريات بعد تلك الصورة الأولى المفرطة في البعد، كبر الطفل في الخامسة من عمره، وانتقل بذلك من حضن أمه إلى حضن المدرسة، كان انتقالاً مبكرا بالنسبة لانتقال أنداده الذين كانوا يفوقونه في السن، فأكسب ذلك مكاسب وعرضه لبعض الهشاشة في تكوينه العلمي لم يتخلص منها إلا بعد عناء وزمن طويل.
عالمي الجميل
كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل، ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضارب أعمامي في البادية حول بلدة الرقة، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب في الربيع تحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء، كنت أتردد على المطحنة لأحمل لأبي طعام غداءه وعلبة دخانه اليومية من منزلنا، ولأتأمل في الرحى الدائرة وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، ولأتطلع إلى المحرك ذي الدولابين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركات منتظمة عنيفة ورشيقة في آنٍ واحد، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب المحرك، وهو يدور على دولابه، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعاً إلى قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر، سارع أرمين، ميكانيكي المطحنة الأرميني، إلي واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلك الصبي، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك.
أما مضارب أعمامي فقد كنت أتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعة التالي له، كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم، نصف حضر يسكنون منازل البلدة الحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهم يتنقلون بها بين المراعي، والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنة بكاملها، ولهذا كنت ألجأ إلى منازل أعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت لي الفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم، وأنام تحت سماء الربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة، إلى أحاديث المتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوا بنعاج القطيع إلى أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج.
منعطف حياتي
بعد الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى جلب لمتابعة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحوي مدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعد ذلك المنعطف الكبير في حياتي، أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض، الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي في مستشفاه نحوا من عشرة أيام، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاما كاملا، بقيت العام التالي بطوله في الرقة بناء على إشارة الدكتور مونييه، وبقيت عامين بعده فيها بناءً على رغبة الوالد، الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه في إدارة أعماله وأملاكه، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
كان ذلك مصيرا قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة، ولكن ربَّ ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، كانت هذه الأعوام الثلاثة المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنه ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحت إشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح لي ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم على جمالهم، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش، وهي غير الأصائل من الخيل، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورواية أحداث سالفة وجيدة، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفاع الذي قاربته أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث الكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو على رواد المضافة، بعد صلاة العشاء كل ليلة، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدي أو من رواية سرور أغا وصالحة هانم وسلطان عبدالحميد المترجمة عن التركية، وحين كانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلك العم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة المحتل وتسفيه سياسته، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج والتنديد.
القصيدة الأولى
كان تلامذة مدرستنا الوحيدة في البلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها "وفاء السموءل"، كنت أحضر معهم تجاربها وأشاركهم في إعدادها، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة، كانت أول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيان ليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمي كناظم لها، كان اشتراطي هذا نابعا من انطوائي على نفسي وحياء مفرط يجعلني أتهيب من كل إشارة تميزني عن الآخرين، بدأ تمثيل المسرحية مسبوقا بإلقاء تلك القصيدة، ولكن ما اشترطته على ملقيها لم يدخل في حيز التنفيذ فقد أعلن ذلك الفتى اسمي بأعلى صوته منوها بأني أنا ناظم القصيدة، وما جرى في اليوم التالي لحفلة التمثيل أن أقرباء أبي وأصدقاءه تكاثروا عليه بلومهم إياه على دفن مواهبي في العلم والأدب تحت غبار المطحنة وفي زيتها، وبمطالبتهم له بإعادتي إلى حلب كي أتابع الدراسة التي هجرتها في ثانويتها.
وهكذا عدت إلى حلب ومدرسة التجهيز الثانوية فيها، وقد ضاعت على أربع سنوات من الدراسة، استدركت سنتين من تلك الأربع في فحص تأهيل، اجتزته بنجاح، وضاعت مني سنتان، ولكن هل ضاعت مني تلكما السنتان حقا؟ الصحيح أنه لا. سنوات الانقطاع التي ضاعت مني، أو عليَّ، اكتشف بعدها أنها أكسبتني فوائد لا تقدر بثمن، عدا نضج الفكر وتجربة العمل ومعرفة أصناف الناس التي تحدثت عنها، وجدتني قد حصلت من قراءتي على زاد من المعرفة في علوم شتى أتفوق بها على أقراني في المدرسة التي عدت إليها، وأحيانا أتفوق بها على أساتذتي في بعض تلك العلوم. وأهم من ذلك كله اكتشف أن تهيبي من الحساب والرياضيات والعلوم الحقيقية، الذي كنت أحسبه ضعفا وعجزا مني فيها، اكتشفت أن ذاك التهيب قد فارقني كلية وتحول إلى مقدرة وولع شديد بتلك العلوم.
ثابرت في المدرسة الثانوية على قرزمة الشعر، أعلى نظمه نظما هزيلا في أول الأمر، إلى أن استقام لي أمره بالاستمرار وبتوسع المعرفة، إلا أني لم أتعد فيه المزاح والتسلية، أسخر فيه من رفاقي وأرسم به صوراً ضاحكة لأساتذتي، وأحيانا أنظم به نظريات الهندسة ودروس الكيمياء في أراجيز ساخرة على طريقة ألفية ابن مالك! ذلك أن تعلقي الكبير والجاد كان بالعلوم الحقيقة من فيزياء ورياضيات، يعجبني العناء الذي أتحمله في إتقانها والنجاح في دروسها، في حين أن النجاح في الأدب، نثره وشعره، كان يواتيني بسهولة ويشهد بنتائجي المشرفة فيه المعلمون والرفاق، وإلى جانب هذا نمت في نفسي، مع تقدمي في الصفوف العليا، بذرة حب العمل العام، العمل لصالح الذين أنا منهم في مجتمعي وفي الوطن الذي هو وطني، أصبحت في السنين الأخيرة من الدراسة الثانوية الرئيس المنتخب للجان الطلاب، والمؤسس لمجلة أصدرتها مع رفاقي وأسميتها "صوت الطالب"، والمشارك مع إخواني في الإضرابات والتظاهرات ضد المحتل الفرنسي، والمتكلم باسم أولئك الإخوان حين يقتضي الأمر المديرين والوزراء.
أسماء مستعارة
وبمثل هذا التستر والتوقيع بالأسماء المستعارة نشرت كتابات أدبية كثيرة في عدد من الدوريات المشتهرة في ذلك الزمن، مثل مجلة "الحديث" في حلب و"المكشوف" في بيروت، وهي دوريات كانت تحفل بما يكتبه أساطين الفكر والثقافة ويطمح الكثيرون إلى أن تظهر أسماؤهم فيها، أما أنا فكنت قانعاً بأن يجاور إنتاجي الأدبي في تلك الدوريات إنتاج المشاهير، وبأن يلقى الإعجاب من القراء دون أن يعرف أحد، إلا الندرة من أصحابي، بأني كاتب تلك القصص أو المسرحيات أو ناظم تلك القصائد، واستمر هذا إلى أن نلت شهادة البكالوريا من صف الرياضيات لا من صفوف الفلسفة أو الآداب، وإلى أن احتضنتني الجامعة السورية في دمشق، في دراستي الطب فيها، بعد احتضان مدرسة التجهيز الثانوية لي في حلب.
العلم، والأدب، والعمل العام، هي المهام الرئيسية الثلاث التي حملتها معي من مرحلة الدراسة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، ثم إلى جميع مراحل حياتي التالية لهذه وتلك.
في العلم كنت الطالب الجاد والدائم النجاح، ثم المتابع لكل ما هو جديد في الميدان الذي اخترته لحياتي، ميدان الطب والعلوم التي يستند إليها، والمطبق لمعرفتي بكل إخلاص وتفانٍ على من هم بحاجة إليها في ذلك الميدان، وفي الأدب تابعت مسيرتي كهاوٍ له، أعتبره متعة وتسلية، ولكني لا أستهين به ولا تهاون في تلمس الإتقان والجودة فيه، ظللت ردحاً من الزمن، سبع سنوات أو ثمان، أنشر ما أكتبه في الدوريات المختلفة متسترا وراء الأسماء المستعارة، كنت أنتقل من اسم إلى آخر، معميا على من يريد معرفتي، إلى أن وقعت في فخ أحد الصحفيين الذي كشفني وعرف بي ثم أقنعني، بعد أن أصبح صديقا لي، بأن ليس من حرج في أن يعرفني قرائي ولا من خطر في أن تلحق بي الشهرة! وفي هذا المجال أذكر أن أحد الدارسين أحصى الأسماء المستعارة التي كتبت بها بين عامي 1936 و1970 فوجدها تتجاوز اثنين وعشرين اسما.
أما عن العمل العام، فقد كان استمراراً لما كنت بدأته في دراستي الثانوية، لا مجال في العمل العام للمجهولية وللتستر وراء الأسماء المستعارة، عرفت بين أقراني بالنشاط في هذا الميدان، وعندما بلغت الصفوف المتقدمة أصبحت رئيس لجنة الطلاب في معهدي لعدة أعوام ومشاركا مرموقا في فعاليات الأوساط الجامعية من ثقافية ورياضية وسياسية. وكانت تلك مقدمة لانغماري، بعد تخرجي في الجامعة السورية طبيبا، في خصم العمل السياسي في بلدي، قمت بترشيح نفسي للنيابة في بداية عملي كطبيب في بلدتي، الرقة، وفزت بعضوية المجلس النيابي السوري عنها، وكان ذلك في صيف عام 1947، أعني منذ أكثر من نصف قرن مضى.
ذكريات العمل السياسي، كما باشرته بنفسي في نحو من سنتين كنت فيهما أحد ممثلي الشعب في المجلس النيابي ذاك، هي من الكثرة والأهمية بحيث يضيق بها مرفأ الذاكرة. كانت سوريا قد نالت استقلالها التام بجلاء جيوش المحتل عنها منذ سنة واحدة فانصرف حكامها ووراءهم الشعب إلى الجهاد الأكبر بعد الجهاد الأصغر، أعني إلى معركة البناء واستعادة الحقوق المغتصبة والسعي لتحقيق المثل العليا. الذكريات كثيرة كما قلت. وأقف منها على ذكريات وقائع معينة كانت من أهم ما مر بي تأثيراً لتفكيري وتوجيها لسلوكي، تلك هي الوقائع التي شهدتها أو شاركت فيها ثم تابعت مجرياتها ومازلت لها متابعا، وأعني بها وقائع القضية الفلسطينية.
التطوع من أجل فلسطين
احتللت مقعدي في مجلس النواب في وقت وصلت فيه القضية الفلسطينية إلى قمة التأزم، تألب العالم الغربي، ومعه الاتحاد السوفييتي، على حق العرب وصدر قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، على أن يطبق هذا القرار في 15 مايو سنة 1948. لم يرض العرب، شعوبا وحكومات بالقرار الجائر وتنادوا إلى الحيلولة دون تنفيذه بقوة السلاح عن طريق الجهاد الشعبي المتمثل بأفواج جيش الإنقاذ، وهي أفواج تألفت من متطوعي البلاد العربية المختلفة، أولا، ثم بتدخل الجيوش السمية إذا اقتضى الأمر بعد ذلك، وفي غمرة أحداث تلك الفترة الحرجة وجدتني أهجر مهامي كنائب في المجلس وألتحق متطوعا بمجاهدي فوج اليرموك الثاني من جيش الإنقاذ، وهو الفوج السوري من ذلك الجيش، يرافقني في ذلك الالتحاق زميلي في النيابة الأستاذ أكرم الحوراني، أكون في مقدمة من دخلوا الأرض الفلسطينية من المجاهدين، سعيا وراء نصرة فلسطين العربية واستنقاذها من مخالب تحالف الصهيونية العالمية وأعداء العرب في العالم الغربي على أرض العرب المقدسة.
كان فوج اليرموك الثاني بقيادة أديب الشيشكلي الذي كان ضابطا برتبة رئيس وهي الرتبة التي تحول اسمها اليوم إلى رائد أو مقدم، وكان دخولنا إلى فلسطين من الحدود اللبنانية، جنوب بنت جبيل والنبطية، في ليلة الثامن من شهر يناير سنة 1948. باشرنا عملياتنا الاستكشافية والحربية التي لا مجال للتفصيل عنها طيلة الشهور الخمسة التي سبقت موعد دخول قرار التقسيم مرحلة التنفيذ. وإذا كنت قد عدت بعد تلك الشهور إلى مكاني في مجلس النواب متابعا مسيرتي السياسة تحت قبة البرلمان وفي المحافل المختلفة وعلى صفحات الجرائد والمجلات، فإن التجربة التي عدت بها من المعاناة على أرض الواقع في فلسطين فتحت عيني على أمور كثيرة وبصرتني بأمور كثيرة كنت بعيدا عن معرفتها مثل الآخرين الذين لم يتح لهم معايشة ما عايشته أنا. اكتشفت في تلك التجربة أشياء كثيرة عن سير أمورنا، وعن خصائص شعوبنا، وعن أقدار رجالنا، ومن سوء الحظ أن تجربتي، كما رددت في مناسبات كثيرة، قد تكشفت لي عما خيب أمل الشاب المثالي الذي كنته في تلك الأيام، ومن سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام 1948 إلى اليوم جاء مؤيدا تقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكاناتنا، وهي التقديرات التي وضعتها لنفسي في ذلك الحين.
العودة للأدب
وأعود إلى الأدب مرة أخرى خاتماً به هذا الحديث الطويل، لقد دأبت على أن أعتبره لنفسي وأذكره للآخرين كهواية، ممتعة وسامية في آنٍ واحد، أمارسها في غير عناء وفي قليل من الجد، ولكن، كما قال الشاعر القديم:
صار جدًا ما لهونا به ربَّ جدٍ جرَّه اللعب!
فما يطفو على ألوان النشاط المختلفة في حياتي، وما يعرفني به الآخرون ويحاورونني فيه ويتقصون أخباري فيه، هو الأدب قبل الطب وقبل السياسة وقبل فعاليات مختلفة أخرى أجدني ما قصرت فيها عن أداء ما وجب علي ولا عن تقديم ما قدمته، متطوعا ومفيدا، للناس حولي وللقيم والمعتقدات التي أومن بها، عطاءاتي الأخرى تنحصر معرفتها في حلقات ضيقة وبين أناس محدودين، أو أن دوامها لا يمتد إلى زمن طويل. أما العطاء الأدبي مني ومن أمثالي فإنه، إذا كان يحمل صفات تؤهله لذلك، طويل الديمومة وعريض الجمهور، لقد انتهى بي إصرار الآخرين على تقديم صفتي الأدبية على سائر صفاتي الأخرى أن تابعتهم أنا إلى الإيمان بقيمة هذه الصفة وأكاد أقول إن ذلك حدث على الرغم مني!
ولعلي في هذه الواقعة التي أرويها للقراء في مختتم المطاف أضرب مثلاً لهذا الذي ذكرته عن تقدير من عدوني بتقديرهم لما رأوه في من موهبة تستحق التقدير.
حدث ذلك منذ ستة أعوام أو سبعة، زارني في بلدتي السيد. لوشون، وهو الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق أيام ذاك، وكان قارئا لأعمالي المترجمة إلى الفرنسية ومعجبا بها، وفي زيارة لي إلى دمشق بعد عودته هو إليها اتصل بي هاتفيا وسألني عما إذا كان بإمكاني أن أمر عليه، في مكتبه، قلت له: أفعل، وبكل سرور، فوجئت حين دخلت مكتب الملحق الثقافي الفرنسي بأن رأيت صورة كبيرة لي معلقة على أحد جدران المكتب. كانت صورة قديمة، أخذت لي في أيام الصبا، أبدو فيها ممتطيا فرساً أصيلة كنا نملكها في ذلك الزمن ومرتديا ثيابا عربية، استغربت وجود هذه الصورة وسألته عنها. ابتسم وقال إنه عثر عليها بحجم صغير حين زار الرقة، وإنه كبرها وأحاطها بهذا الإطار في بيروت، وإنه استدعاني ليرجوني أن أضع توقيعي له عليها. لم أملك إلا أن أجاريه في الابتسام وقلت له: ولكنك تضع صورتي في صدر مكتبك الرسمي، هذا المكان ليس لي، إنه مكان المسيو ميتران! كان فرنسوا ميتران يومذاك هو رئيس الجمهورية الفرنسية. كان جواب الملحق الفرنسي، الموظف في سفارة بلاده، هذه الكلمة الغربية التي قالها بلهجة اقتناع: أنت قيمة أكثر ثباتا من المسيو ميتران!بالطبع لم أكن من الغرور، أو من فرط الإعجاب بالنفس، بحيث أصدق أن قيمتي تفوق قيمة رجل كان رئيس جمهورية فرنسا في يوم من الأيام وكان مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمن رئاسته، ولكن كلمة المجاملة التي نطق بها مخاطبي الكريم، السيد. لوشون، تصور بجلاء اهتمام نخبة المثقفين، إن لم أقل عامتهم، في عالمنا الحاضر بالأدب وبمبدعيه وتقديرهم لهم وله. وعلى ما يشبه الرغم مني، كما أسلفت القول، أصبحت مجرورا إلى هذا التقدير وذلك الاهتمام بالفن الذي بدأت فيه هاويا مثل المستهين ثم انتهيت إلى أن أجده أجدر ما أختم به هذا الحديث عن مرفأ الذاكرة، وعن الخواطر التي رست فيه بعد طول الإبحار.
علاء الدين- عضو Golden
- عدد المساهمات : 5552
نقاط المنافسة : 51257
التقييم و الشكر : 1
تاريخ التسجيل : 13/01/2013
نوف- عضو Golden
- عدد المساهمات : 967
نقاط المنافسة : 8917
التقييم و الشكر : 0
تاريخ التسجيل : 05/02/2013
مواضيع مماثلة
» د. العجيلي: الإبداع لا يحتاج إلى تفرغ!
» (¯`·._الشيخ فؤاد عبدالسلام عدد التلاوات 13 تلاوة_.·´¯)
» (¯`·._الشيخ فؤاد عبدالسلام عدد التلاوات 13 تلاوة_.·´¯)
» وجع الذاكرة
» قصاصات من الذاكرة
» (¯`·._الشيخ فؤاد عبدالسلام عدد التلاوات 13 تلاوة_.·´¯)
» (¯`·._الشيخ فؤاد عبدالسلام عدد التلاوات 13 تلاوة_.·´¯)
» وجع الذاكرة
» قصاصات من الذاكرة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى