شبكة و منتديات تولف أن آر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ذكريات من القدس

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

 ذكريات من القدس  Empty ذكريات من القدس

مُساهمة من طرف علاء الدين الثلاثاء فبراير 05, 2013 4:47 am

 ذكريات من القدس  1_2009124_2359
صَدرت
مطلع هذا العام 2009 التّرجمة العربية لكتاب "ذكريات من القدس" عن دار
الشروق الأردنية.. والكتاب حكايات تَمْتد لأكثر من قرن، روتها "سيرين
الحسيني شهيد" باللغة الإنجليزية قبل ثماني سنوات، وتُرجمت إلى الفرنسية
عام 2005، والعبرية عام 2006 .. وتأتي الطبعة العربية، والاعتداء الصهيوني
الغاشم يأتي على الأخضر واليابس في غزة، ذلك الجزء النفيس من أرض فلسطين،
وقام بترجمة الكتاب عن الفرنسية الكاتب والناقد المغربي محمد برادة .


والكتاب
لا يخضع لفكرة سرد زمني مُتراتب زمنيًا بقدر ما يعتمد على استحضار الوجوه
والمواقف والأسماء والحكايات، الَّتي في مجملها ترسم مشهدًا حياتيًا حيًا
لأسرة فلسطينية تضرب جذورها في هذه الأرض الَّتي لم يشأ أن يعترف موظف
إنجليزي بوجودها على الخريطة السياسية يومًا.. ولهذا يستشعر القارئ في
الكتاب شحذًا لذاكرة، وجيشانًا لجزئيات من هذه الحيّاة الفلسطينية الَّتي
قوضها الاحتلال البريطاني ثم دكها الصهاينة عام 1948، وما زالوا حتَّى هذه
اللحظة يفعلون على أرضها ما سيندى له جبين الإنسانية.


صفحات
الكتاب تقدم حيوات أربعة أجيال آخرها جيل "سيرين" نفسها وهذا ما سوف تلخصه
في نهاية الكتاب صورة فوتوغرافية، ضمت أربعة أجيال، أو نساء أربعة أجيال
"سيرين الحسيني"، وأمها نعمتي، وجدتها لأمها زليخة الأنصاري، ثم جدة أمها
أسماء وتقدم "سيرين" قراءتها لهذه الصورة.


تقول
الكاتبة في مقدمة الكتاب: كتبت هذه الصفحات عن طفولتي وعن فلسطين في
الثلاثينات من القرن الماضي من أجل بناتي، والأجيال الآتية الَّتي لعلها
تجهل كل شيء عنا وعن طريقة عيشنا، ويبدو لي مهمًا الحفاظ على ذاكرة تلك
الأيام المندثرة ذلك الأمل في مستقبل أفضل لا يمكنه أن يتغذى إلا بمعرفة
حقيقية للماضي، وأول شيء أحرص على قوله هو أنَّه لا شيء يُميزنا عن بقية
سكان هذه المعمورة لكن مصيرنا لم يكن مثل مصيرهم.


وقدم
للكتاب المفكر الفلسطيني الراحل "إدوارد سعيد" الَّذي يقول في تقديمه
للكتاب: إن "سيرين" تقول لنا منذ البداية أن ذكرياتها تتناول أساسًا
الأمكنة في القدس، وما جاورها، وفي أريحا، أو مواقع فلسطينية أخرى.


ثم
في لبنان.. نجدها تعيد رسم شبابها، والتنقلات والمآسي الناجمة عن الموت،
وتبدلات الحياة المفروضة، وعن المنفى.. كما ترسم مسرات الاستكشاف والعلاقات
والحب الَّتي كيفت حياتها كفلسطينية وزوجة وأم خلال فترة هامة من القرن
العشرين.


ويرى
سعيد: أن التاريخ وبخاصة تاريخ الضحايا يستمر في الوجود بطريقة أخرى ولا
يُمّحى بسهولة، وهو يستطيع أن يستعيد الحياة بفضل نموذج من الشهادات
الشخصية الَّتي تقدم "سيرين شهيد" مثالاً بليغًا عنها.


ثم
يضيف: إن كتاب "سيرين الحسيني شهيد" هو ذخيرة تاريخية وبشرية مؤلّفة
أساسًا على شاكلة فسيفساء من شذرات ممتعة في معظمها ومن مسرّات عابرة
وشقاءات أكثر ديمومة.. إنها شهادة حميميّة ولا شك، لكنها أيضًا أدب أليف
إنّساني صادق كريم وفصيح.


إنَّ
هذا الكتاب (ذكريات من القدس) يستحق أن يجد موضعًا في متحف الذاكرة جنبًا
إلى جنب ذكريات أخرى، حتَّى لا يستطيع فقدان الذاكرة ولا التقدم التاريخي
المزعوم أن يطمسا هذه الشهادات.


في
البداية تستذكر الكاتبة سنواتها الأولى في القدس في كنف والدها جمال
الحسيني، فتروي حكاياتها الشخصية الَّتي تتقاطع مع حكاية شعب نُفي قادته
بسبب مقاومتهم للانتداب البريطاني في الثلاثينيات، قبل أن يُشرد مئات
الآلاف من الفلسطينيين بعد النكبة، ويتوزعوا على جهات الأرض الأربع، في
ظروفٍ قاسية ومعاناة لا حدود لها.


وتروي
شهيد: كثيرًا ما أعود عبر الحلم إلى القدس.. هذه الرحلة الداخلية لا تحمل
دائمًا بصمة الحزن واليأس؛ أحيانًا.. مجرد الفرح بأن أوجد فيها من جديد،
يملؤني بدفء عميق. أغمض عينيّ وأحلم في دخيلتي. أختار رفقائي، والأمكنة
التي أتمنى زيارتها، والأشخاص الذين أرغب في رؤيتهم، شيوخًا أو شبابًا،
وبعضهم طواهم الموت منذ سنوات، وبعضهم الآخر قيد الحياة.


صور
عائلة "سيرين الحسيني شهيد" والأماكن التي زارتها، أو عاشت فيها في فلسطين
ولبنان وأوروبا، والتي وُشّح بها الكتاب، كانت المحرض الأبرز على استدراج
الذكريات من مكامنها، إذ تؤكد سيرين: بعض الشذرات من حياتنا، قديمًا في
فلسطين، تتحول بعدة سنوات عدّة إلى كنوز عظيمة.


وكما
تفتتح كتابها بصورها الشخصية في مرتع طفولتها وصِباها ويفاعتها، تختتم
"سيرين الحسيني" كتابها بالحديث عن صورة تمثل أربعة أجيال، تَظهر فيها
المؤلفة إلى جانبها والدتها نعمتي العلمي، وجدتها زليخة الأنصاري العلمي،
وجدة أمها أسماء غنيم، ومن ثم تتساءل: أين أنا الآن فيما أقترب من غسق
حياتي؟ يمكنني أن أعرف حقًا من أي شيء صنعت حياتهن؟ ألسنا نميل جميعًا من
الاعتقاد بأن أقاربنا سيظلون دومًا حاضرين، متناسين أن السنين تمر، وأن زمن
طرح الأسئلة وسبر أغوار الماضي ينقضي إلى غير رجعة.


وقد
رأت سيرين من خلال هذه الصورة، واستعرضت التغيرات الحاصلة بين ميلاد جدة
أمها في مطلع القرن التاسع عشر، والفترة التي عاشت هي فيها، أي بعد قرن من
الزمن، وهي فترة شهدت أحداثًا لا نظير لها في التاريخ.


هنا،
تستعرض الحسيني واقع حياة الفلسطينيين في مخيمات الشتات، ودور المرأة
الفلسطينية في المواجهة والصمود، من خلال قصة "أم يوسف" التي ظلت في قريتها
بحيفا على أمل ألا تضطر للرحيل، غير أنها اضطرت فيما بعد لمغادرة أرضها مع
ابنها وابنتها، أما زوجها فرفض المغادرة وقرر البقاء مهما كانت قسوة
الظروف المحيقة به.


زارت
المؤلفة أمَّ يوسف في أحد المخيمات في لبنان، واطّلعت على الوضع المعيشي
الصعب فيها من دون ماء أو كهرباء، وشاهدت ما تقوم به النسوة لتوفير لقمة
العيش الكريم لأبنائهن.


وتروي
الحسيني قصة عائشة أم عابد المرأة التي أنقذت قريتها من الهدم بعد مواجهة
بين الجيش البريطاني والمقاومين الفلسطينيين، في منطقة قريبة من القرية.
استُشهد حينئذ عابد ابن عائشة، وحمل الجنود جثته إلى القرية القريبة، وفي
نيتهم أن يهدموا بيوتها إذا ما اتضح لهم أنه ينتمي إليها. ثم أرغموا
السكانَ على المرور تباعًا من أمام الجثة ليتفحصوا وجه الشاب ويتعرفوا
عليه، وعندما جاء دور عائشة تعرفت على ولدها، غير أنها لم تعترف بذلك أمام
الجنود خوفًا من أن يعيثوا في القرية خرابًا، ورغم أن الجثة كانت لولدها
عابد و"ارتجافات" جسدها نبهت الجنود، ترنحت، تمايلت، ثم تركت نفسها تتهاوى
إلى جنب ولدها.. صاح الجنود إذن هو ابنك.. ابني من قال أنه ابني، إنه ابن
كل الأمهات، إنني أبكي على شبابه الضائع، وأبكي من أجل أمه من أجل كل
الأمهات لهذا السبب أنا أبكي.. فلتت من أيديهم وأنقذت قريتها من الهدم..
وعادت إلى بيتها دافنةً حزنها في أعماقها من دون شكاة، بينما كان الجنود
البريطانيون يحملون جثة ولدها ليدفنوه وحيدًا، بعيدًا عنها .


ثم
تنتقل الكاتبة إلى الحديث عن أيام الدراسة والحياة الاجتماعية والسياسية
في فلسطين في فترة الثلاثينيات وما تلاها، خصوصًا أن الكاتبة تنتمي إلى
عائلة ـ من جهتَي الأب والأم ـ كان لها دور كبير في الحراك السياسي
الفلسطيني منذ عهد الدولة العثمانية، إذ كان جدها "فيضي العلمي" عمدة القدس
في الفترة 1906 ـ 1909، ونائبًا عن القدس في البرلمان العثماني خلال
الفترة 1914 ـ 1918.


تنتمي
إذن الكاتبة "سيرين الحسيني شهيد" إلى أحد أعرق الأسر الفلسطينية في
القدس، حيث تعود جذورها في هذه المدينة المقدسة إلى أكثر من ثلاثة قرون.
وهي ابنة "جمال الحسيني" الذي كان من العناصر الفاعلة في ثورة 1936 ـ 1939،
مما دفع سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين إلى نفيه قبل عشر سنوات من
النكبة التي كانت وراء نفي أكثر من ثمانمائة ألف فلسطيني إلى مختلف بلدان
العالم.


عائلة
"سيرين" هي دون شك من أعرق العائلات الفلسطينية، فمن جهة أبيها هناك الحاج
أمين الحسيني، ومن جهة أمها خالها موسى العلمي، الحائز على شهادة جامعية
من كامبردج، وكان يحمل أفكارًا متقدمة جدًا بالقياس إلى أبناء جيله.


تؤكد
المؤلفة بأن والدها موجود في صميم ذكرياتها بالقدس، والذي كان يروي لها
الحكايات عن طفولته وألعاب طفولته، ولا تنسى ذلك اليوم، كان عمرها ثلاث أو
أربع سنوات، حيث كان والدها يهم للخروج؛ فتوسلت إليه للبقاء والدموع تملأ
عينيها كي يلعب معها، يومها رفعها بيديه ووضعها على ركبتيه ثم سألها إذا
كانت تذكر ذلك اليوم القريب التي رأوا فيها لاجئين أرمنيين وهم يقطعون
شوارع أريحا وأمتعتهم على ظهورهم بينما يجرون أطفالهم وراءهم وقال لها: هل
تذكرين بأنني شرحت لك بأنهم كانوا يبحثون عن ملجأ؟ ألم نشعر بالألم من
أجلهم لأنهم كانوا مطرودين من بلادهم ومن بيوتهم؟


ثم
صمت لحظة وأضاف: إذا لم نعمل نحن الفلسطينيين، بكل قوتنا فسيكون علينا أن
نجول في العالم بحثا عن ملجأ.. و... لقد توقف فجأة وعلا الانفعال وجهه
ولحظت الدموع في عينيه هكذا تقول "سيرين".


ثم
تقفز المؤلفة مباشرة إلى لحظة قاسية أخرى متباعدة جدًا في الزمن عن اللحظة
الأولى، يوم كان عمر والدها ثلاث وتسعين سنة، وكان على فراش الموت في
الرياض وكانت هي في بيروت، كانا كلاهما منفيين من القدس، وكل منهما منفي عن
الآخر عندما عرفها قال لها: يا صديقتي.. يا صديقتي..


تقول:
كان صوته شابًا في أذني، وتذكرت تلك النزهات في حديقة منزلنا بالقدس فوق
العشب الذي تغطيه قطرات الندى، وأنا اقفز بجانبه محاولة اللحاق به وهو يمشي
حيويًا وسعيدًا بخطى سريعة.


إن
المؤلفة تصف في هذا الكتاب الذكريات.. كيف كان الفلسطينيون ومن كل الملل
والطوائف، يتعايشون مع بعضهم البعض دون أية عدائية، لكن الذكريات المشوبة
بالحنين إلى تلك الأيام السعيدة، التي قضتها "سيرين جمال الحسيني" في
القدس، لا تخفي تصاعد الاضطرابات والقمع البريطاني.


كذلك
تصف المؤلفة بدقة مقاومة الفلسطينيين في سنوات الثلاثينات والأربعينات
وعلى أنها كانت مقاومة شجاعة قادها وغذاها رجال أرادوا منع الاحتلال
الأجنبي لبلادهم.


ومن
خلال سلسلة من الصور التي تتوالى حسب ترتيبها الزمني منذ أنْ كانت "سيرين
الحسيني" في مدرسة الحضانة الخاصة الأمريكية في باب الزهرة، وحتى بداية
سنوات المنفى عام 1936، بل حتى بعدها يمكن للإنسان أن يفهم عمق حالة التمزق
التي عاشها الشعب الفلسطيني.


لكن
المؤلفة لا تكتفي بوصف نمط حياة الشرائح الميسورة والمثقفة التي واجهت
آلام التهجير والمنفى، بل إنها ترسم بدقة أيضًا حياة الفلسطينيين الذين
مكثوا في القدس وحياة أولئك من الفلسطينيين الذين ينحدرون من أصول متواضعة
والذين تقول عنهم بأنهم قد عانوا أكثر من عائلاتها من دفعهم نحو حالة أعمق
من الفقر ومن الاحتلال الاستعماري.


تقول
"سيرين الحسيني شهيد" في إحدى ذكرياتها عن القدس: كان هناك جمهور غفير
دائمًا في المدينة القديمة، رجال دين مسلمون وقساوسة وحاخامات بلباسهم
الأسود، وكل منهم يلبس على رأسه ما يدل على ائتمانه الديني، وكان هناك
فلاحات قدمن من القرى المجاورة من أجل بيع منتوجاتهن في السوق، كن يضعن على
رؤوسهن سلالاً مليئة بالخضروات والفواكه، يد على الخصر، واليد الأخرى تمسك
السلة بقدر من التوازن الرائع.


وتقول
في مكان آخر: كانت وسيلة النقل الوحيدة في أزقة المدينة القديمة هي
الحمير، وكان نهيقها يمتزج أحيانًا مع قرقعات الصحون النحاسية لبائع
المرطبات.


مثل
هذه الحكايات التي لا تخلو أية صفحة في الكتاب من واحدة منها، يرى بها
"إدوارد سعيد" عرضًا ثمينًا غير رسمي، عرضًا شخصيًا لحياة البشر العاديين،
الذين كان عليهم أن يواجهوا منظمة سياسية حديثة مصممة على حذفهم من
التاريخ.. كما يؤكد "إدوارد سعيد" على الأهمية التاريخية لهذه الأحداث بسبب
النقص الكبير في الأراشيف لدى الفلسطينيين.


ثم
إن كتاب "ذكريات القدس" هو بصيغة ما؛ قصة حب بين طفلة ومدينة طفولتها..
الحب الذي فرق أصحاب المشاريع الاستعمارية بين المعنيين به في الواقع، بقي
إذن الخيال.


تقول
"سيرين الحسيني شهيد": أعود غالبًا إلى القدس في الحلم، إن هذه الرحلة
الداخلية ليست مضمخة دائما بالحزن واليأس، وأحيانًا يملؤني مجرد الفرح بأن
أكون فيها ـ أي القدس ـ بحرارة عميقة أغمض عينيّ وأحلم في عمق أعماقي،
أختار صحبتي والأماكن التي أريد زيارتها والأشخاص الذين أتمنى رؤيتهم،
وهؤلاء يمكن أن يكونوا طاعنين في السن أو شبابًا بعضهم رحلوا منذ سنوات
طويلة، وبعضهم لا يزالون على قيد الحياة..


هذه
الكلمات هي بعض ما جاء في فصل يحمل عنوان "شقائق النعمان" والتي كان عددها
ثلاث، وكانت تطل عليها من نافذتها، والتي وجدت عونًا لدينا، تقول: في كل
مرة كنت أطرح فيها أسئلة على نفسي ويصعب عليَّ إيجاد الإجابة كانت زهرات
شقائق النعمان الثلاث تأتي لنجدتي.


وفي
معرض الحديث عن السنديانة تحكي "سيرين الحسيني شهيد" عن جدها لأمها "فيضي
العلمي" الذي كان رئيسًا لبلدية القدس خلال فترة من الزمن، وكان قبلها
موظفًا في الحكومة عندما كانت فلسطين تشكل جزءًا من الإمبراطورية
العثمانية.


وذات
مرة في إحدى الجولات الريفية كانت "سيرين" بصحبة جدها فيضي أفندي الذي كان
يعشق الريف، ظهرت من بعيد سنديانة عملاقة على تلة قريبة؛ اتجه الموكب
نحوها للتمتع بمنظرها عن قريب وللتنعم ببعض ظلها؛ فالوقت كان صيفيًا
حارًا.. لمح الفلاحون الجد وحفيدته، فاتجهوا نحوهما للسؤال عما إذا كان
هناك مساعدة يمكن تقديمها كعادة الفلاحين الفلسطينيين، كان ذلك اللقاء بين
"فيضي العلمي" وتلك السنديانة منعطفًا في حياته. باختصار لقد وقع في حبها
واستمرت قصة الحب تلك طيلة حياته، بل ونقلها للأجيال اللاحقة من أبناء
أسرته هذا، وقد قال له بعض الخبراء بأن عمر تلك السنديانة أكثر من ألف
وخمسمائة سنة.


وفي
ذلك اليوم الذي جلس فيه الجد مع الفلاحين عرف بأن مالك السنديانة هو
أحدهم، فقدم له العرض التالي: هل تقبل أن تبيعني السنديانة وظلها؟ قبل
الفلاح العرض بكل سرور، وأصبح "فيضي العلمي" صديقًا لأهل القرية كلهم،
الذين نصحوه ذات يوم بأن يشتري أرضًا كافية لبناء منزل كبير فعمل
بنصيحتهم.. وأصبح من سكان القرية طيلة فترة الصيف.. تقول "سيرين الحسيني
شهيد": لقد كبرت في ظل السنديانة، وعندما كان عمري تسع أو عشر سنوات كنت
أتسلق أغصانها حتى القمة.


إن
من يقرأ هذه الكلمات يدرك مدى عمق العلاقة بين أبناء فلسطين وأرض فلسطين،
هكذا وبدون شعارات وأيديولوجيات ترسم "سيرين حسيني شهيد" صورة بشر مليئين
بالإنسانية وبحب الوطن.. بشر يبحثون عن العيش بهدوء وسلام وكانوا يعيشون
بهدوء وسلام حتى جاء من خلخل توازن إيقاع حياتهم..


بعض
عناوين فصول هذا الكتاب هي: شقائق النعمان، السنديانة، هالا، فيرا
وتاتيانا، المنفى، بيروت، الست زكية، بغداد، العم موسى، أم يوسف.. إلخ.


هذه
العناوين كلها تحكي القصة كلها، لكن هناك لحظات تدعو للتوقف والتأمل، نقرأ
في الكلمات الأولى من الصفحات التي تحمل عنوان المنفى ما يلي: ذات يوم في
خريف 1936 كنت جالسة وحيدة في شرفة منزلنا بالقدس، بدا أن الزمن قد توقف
على الرغم من التوتر الذي كان يسود في المدينة، وفي المواجهات التي كانت
تزداد عنفًا مع حكومة الانتداب، كان والدي في أريحا من أجل الاهتمام
بحقولنا، ولكن أيضًا من أجل أن يزرع الشك في ذهن البريطانيين حول مكان
وجوده، وكانت أمي القلقة داخل المنزل، وكان الأطفال الصغار قد ذهبوا عند
الجيران، أما أنا فقد أخذت بالقراءة متلذذة بالسكون الذي كان يخيم في
المنزل. كان الغسق يقترب عندما اقترب رجل طويل القامة وطلب بإلحاح رؤية
والدي جمال الحسيني.. فأجبته بأنه غير موجود، ألح بالطلب وكانت إجابتي
نفسها، كنت لا أزال شابة صغيرة، وكنت أعرف أنه ينبغي حماية أبي وكنت فخورة
بموقفي الحازم. نظر الرجل لي بقسوة، وقال لي بصوت واضح وآمر: اسمعي لي
جيدًا، قولي لوالدك، إذا كان ذلك باستطاعتك، بأنه ينبغي ألا يُمضي الليل في
البيت.


ثم
انصرف الرجل الغريب وجاء الأب مع قدوم الليل، وأبى أن يعطي أية أهمية
للرسالة التي بلغناها له، لكن بعد جهد ونقاش قبل الأب أن يخرج من الباب
الخلفي. وفي فجر تلك الليلة وصلت مجموعة من جنود الانتداب البريطاني ومعهم
أمر بإلقاء القبض على جمال الحسيني، أكدت الأم عدم وجوده، ففتشوا المنزل
غرفة بعد غرفة، وعندما لم يجدوا أحدًا أعلن الضابط بأن عناصره سوف يمكثون
في الحديقة ويراقبون المنزل حتى إشعار آخر.. كانت "سيرين" هي المكلفة من
الأسرة بالبحث عن أبيها، عند الأقارب لإنذاره، لقد وجدته عند العمة أمينة،
أخبرها بأنه ينبغي عليه أن يعيش حياة سريّة لبعض الوقت، بعد أن قبضوا على
جميع معاونيه.


تقول:
لقد مضى زمن طويل قبل أن أراه، فقد سمعنا عبر الإذاعة بأن زعماء سياسيين
آخرين جرى تسفيرهم في مركب إلى جزر سيشل، كنا نجهل تمامًا مصير والدي، ولم
نكن نعرف سوى شيء واحد هو أنه اختفى بكل الأحوال.. كانت بيروت وهي نقطة
اللقاء المتفق عليها في حال انفصالنا عن بعض لسبب ما، وبعد فترة قصيرة من
اختفاء الأب تركت الأسرة القدس، وكانت الوجهة هي بيروت، وكانت تجربة
الدراسة في المعهد الأمريكي بالنسبة لسيرين، ثم الجامعة الأمريكية، بينما
كانت الأسرة بعد لقاء الأب في بيروت قد ذهبت إلى بغداد وفي بيروت تعرفت
"سيرين" على زوجها القادم الطبيب "منيب شهيد".


ثم
كان عام 1948 عام النكبة الذي كانت الجامعة العربية قد تأسست قبل أربع
سنوات أي عام 1944، وكان خال "سيرين" المحامي موسى العلمي، هو الممثل
الوحيد لفلسطين في مؤتمر الإسكندرية، حيث تمت صياغة ميثاق الجامعة، لكنه
خسر بيته وأرضه مثل الكثير من الفلسطينيين، ولم يترك سوى منزل صغير في
أريحا.


بقي
الخال موسى في فلسطين في الأراضي المحتلة، بعد حرب 1967 وباسم قانون جمع
الشمل عادت والدة "سيرين" إلى أريحا عام 1972 حيث كان أخوها، ثم عادت
"سيرين" وأخوتها إلى عند أمهم.


في
ذلك اليوم عندما قطعت "سيرين" جسر اللنبي الشهير، بدا عليها انفعال كبير
فقال لها ذلك الصبي، الذي كان يحمل حقيبتها لقاء بضعة دراهم، لا تدعيهم
سيدتي يرون ضعفك، وهكذا كانت تقاوم.


الصفحات
الأخيرة من الكتاب تحكي عن الأيام الأخيرة، للأب "جمال الحسيني" الذي أمرت
سلطات الاحتلال الإسرائيلي برحيله عام 1982، ثم يموت بعده الخال موسى في
عمان 1984؛ ليرافق جثمانه في اليوم التالي أسرته وبعض أصدقائه إلى القدس،
عبر جسر اللنبي، ليدفن إلى جانب والده "فيضي العلمي"، ولقد وحدت يومها مآذن
المساجد وأجراس الكنائس صوتها لتستقبل ابنًا عرف أخيرًا طريق العودة.


إن
كتاب "سيرين الحسيني شهيد".. هو ذخيرة تاريخية وبشرية مؤلفة أساسًا على
شاكلة فسيفساء من شذرات ممتعة في معظمها، ومن مسّرات عابرة، وشقاءات أكثر
ديمومة، وكلها موضوعة بكثير من الاحترام والمحبة على أمل أن تُربي وتجذب
القارئ، ولولا مثل هذه المحكيات لما علم شيئًا عن ذلك العالم الذي ضاع
اليوم جانبه الأساسي. إنها شهادة حميمية ولا شك، لكنها أيضًا أدبٌ أليف،
إنساني، صادق، كريم وفصيح. واستنادًا على هذا النوع من المادة الخام الحيّة
ستشيد مستقبل فلسطين، لأنها مادة خام ستدوم أمدًا طويلاً وستستخدم أهدافًا
أكبر مما قصدت إليه "سيرين شهيد" المتواضعة دومًا.


إن
هذا الكتاب يستحق أن يجد موضعًا في متحف الذاكرة جنبًا إلى جنب ذكريات
أخرى، وذلك حتى لا يستطيع فقدانُ الذاكرة، ولا التقدم التاريخي المزعوم أن
يطمسا هذه الشهادات.

علاء الدين
عضو Golden
عضو Golden

عدد المساهمات : 5552
نقاط المنافسة : 51078
التقييم و الشكر : 1
تاريخ التسجيل : 13/01/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 ذكريات من القدس  Empty رد: ذكريات من القدس

مُساهمة من طرف الامبراطورة الثلاثاء فبراير 05, 2013 7:42 am

الف شكر لك ويعطيك العافيه
الامبراطورة
الامبراطورة
عضو Golden
عضو Golden

عدد المساهمات : 7679
نقاط المنافسة : 57093
الجوائز : المركز الثالث
التقييم و الشكر : 0
تاريخ التسجيل : 17/01/2013

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى