تاريخ الطب النفسي

منذ آلاف السنين كان ينظر إلى الأمراض العقلية وكأنها من صنع قوى خارقة
أوجدتها , فأولئك المرضى كان ينظر إليهم أحياناً أنهم أناس مغضوب عليهم من
تلك القوى الخارقة، أو كان ينظر إليهم بوصفهم أناساً منبوذين، ولهذا
فكثيراً ما كانوا يقتلون تخلصاً منهم ومن الشياطين التي تلبسهم، أما
المحظوظون منهم، ممن كانوا يكابدون حالات جنون أخف وطأة، فكانوا يحاطون
بالرعاية، ومن مظاهر تلك الرعاية أنهم كانت تخلع عليهم الأردية المزركشة،
وتزين هاماتهم بأكاليل الغار. غير أن المحاولات الأولى لمعالجة الأمراض
العقلية على أسس علمية رصينة، قد تمت عندما بدأت العلوم الطبية تتقدم بشكل
سريع في بلاد الشرق وفي بلاد الإغريق.
وجد الطب الإغريقي القديم سنداً له إتكأ عليه في الفلسفة الطبيعية
المنبثقة عن المدرسة الأيونية وبالأخص منها مدرسة طاليس، وإنكسيمندر،
وإلكسيمانس في مالطية.
ويتلخص موقف هذه المدرسة وقتذاك في أن أصل جميع الأشياء يقوم على أساس من مادة أولية هي قوام ما كان في الطبيعة.
وفكرة أصحاب هذه المدرسة الطبيعية تأثر بها كل من جاء بعدهم من المفكرين والمهتمين بالطب، من أمثال الكيمايون.
ثم جاء أبقراط، فالتقط فكرة الكيمايون تلك، وطورها في القرن الخامس قبل الميلاد.
والأساس الفلسفي الذي اتكأت عليه آراء أبقراط في الطب النفسي، يرجع إلى
تعليمات استمدها أبقراط من ديمقريطس في فلسفته المادية التي انعكست مباشرة
في تسمية أنماط الجسم وأمزجته الأربعة التي ارتبطت باسم أبقراط.
والأمزجة الأربعة التي سماها أبقراط :
1 ـ المزاج الدموي.
2 ـ المزاج البلغمي.
3 ـ المزاج الصفراوي.
4 ـ المزاج السوداوي.
وقام أبقراط بمحاولات حثيثة في سبيل الأمراض العقلية.
فلعلاج حالات الإدمان على الكحول مثلاً، أوصى باستخدام أسلوب العلاج
بالتنفير: أي بإحداث حالة من التقزز عند المريض ليبتعد عن الكحول وينفر
منها، وذلك بإعطاء المدمن جرعات من مادة مرّة مقززة، أو عن طريق فصده
وإسالة دمه وهو في حالة سكره، ليرى دمه يسيل فيرتبط في ذهنه منظر دمه بما
يتعاطاه من شراب مسكر، وبذلك يكره المادة التي أدمنها. وكان يقترح علاجاً
لبعض المرضى عقلياً ونفسياً بأن يغيروا أماكنهم. فتغيير المكان كما
اقترح من شأنه أن يغير من الذكريات المؤلمة، فينسى المريض آلامه وهمومه.
وفي الشرق فقط كان الطب حينذاك يخطو نحو مزيد من الإرتقاء، وذلك إبّان الحقبة الممتدة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر.
وإن كثيراً من العلماء الأوروبيين قد نجوا مما كان يهدد حياتهم في بلدانهم
فلجأوا إلى بلدان أخرى في حوض البحر المتوسط وبلاد فارس، وفي بعض
المحميات العربية الأخرى. وهنا يجدر أن نذكر ابن سينا الذي عاش في القرن
الحادي عشر الميلادي. كان هذا الطبيب الألمعي، يشاطر أبقراط الرأي، بشأن
الأمراض العقلية، وقام بمحاولات منتظمة وناجحة في علاج الذين كانوا يعانون
من أمراض عقلية. وأولى المستشفيات التي أنشئت لهذا الغرض قد فتحت في
القرن التاسع الميلادي، في كل من بغداد، والقدس ودمشق.
رافقت الإنطلاق الفكري في فرنسا خاصة، وفي أوروبا عامة، في القرن التاسع
عشر انطلاقة منصفة تخص النظرة إلى الذين يكابدون أمراضاً عقلية، نظرة
إتسمت بالنزعة الإنسانية. ففي فرنسا مثلاً، تطورت الاتجاهات نحو المرض
ونحو من يعانون منه، تطوراً كبيراً، وذلك بفضل حملة جديدة حمل لواءها
يومذاك الطبيب الفرنسي فيليب بينيل ثم من بعده تلميذه أسكويرول.
وفي الثلاثينات من القرن التاسع عشر، طور الطبيب الإنجليزي كونللي فكرة:
(لا قيود ولا احتجاز بعد اليوم)، وهو التقييد والاحتجاز الذي كان يخضع له
المرضى العقليون.
كانت حملة كونللي هذه مكملة لما كان قد قام به كل من بينيل واسكويرول. من
قبل، فوصلت أصداء عمل كونللي هذه إلى روسيا حيث تم تلقفها هناك بسرعة،
وطبقها على نطاق واسع طبيب الأمراض العقلية آنذاك كورساكوف ثم سرعان ما
بلغت آراء كونللي تلك الولايات المتحدة، فأخذت بتطبيق علاج الأمراض
النفسية ـ العصبية على أسس من الإتجاهات الإنسانية اللازمة، وأهم دور في
ذلك يرجع هناك إلى بي.روش b.rush 1813-1745 وهو أول طبيب نفسي في الولايات
المتحدة.
ولعل أكبر إسهام في ميدان الطب النفسي هو ما قام به الطبيب النفساني
الألماني المرموق بونهايفر bonheffer 1948-1868 الذي أكد على العوامل
الخارجية التي تبدو أعراضها على المريض فيستشفي منها ومما يكمن وراءها من
عوامل داخلية. وإذا أهملت هذه الأعراض فإنها تتفاعل فيما بينها فتفضي إلى
ما يضر بالصحة النفسية والجسمية.
ويزخر تاريخ الطب النفسي بعدد هائل من أعلام الطب النفسي، فالعلماء الذين
نذروا أنفسهم للبحث فيه والعلاج في ميدانه لا حصر لهم. فقد أسهموا أيما
إسهام في هذا المجال وعلى مختلف الصعد في شتى الميادين العلمية. تضافرت
جهودهم في مضامير التشخيص الخاص بالأمراض العقلية وعلاجها، وفي أسباب
الأمراض النفسية وطبيعتها، وفي ميدان دراسة الصيدلة النفسية، ومشكلات
الأوهام، والهلوسات، والخرف المبكر، والخرف المتأخر وفي السبل الوقائية
لدرء مخاطر الأمراض العقلية منها والجسمية. كل هذا الكم الهائل من العلم
قد أرسى أسسه علماء أوقفوا حياتهم على خدمة العلم من أجل إسعاد الإنسانية.